You are currently viewing الإمام البخاري
الإمام البخاري

الإمام البخاري

إنه إمام المحدثين، وفقه الله تعالى لحفظ وفهم الأحاديث النبوية الشريفة منذ حداثة سنه، كما وهبه ذاكرة متقدة و ذكاءا منقطع النظير، فترك ميراثا علميا غزيرا انتفع به الناس و لا يزالون ، إنه الإمام البخاري صاحب كتاب الصحيح الذي يعتبر ثاني أصح كتاب بعد القران الكريم، تلقته الأمة بالقبول و حاز على التقدير و الثناء في كل عصر و مصر، في هذه المقالة سنتعرف على الإمام البخاري، الرجل الذي كرس حياته لخدمة الحديث النبوي الشريف.

ولادة الإمام البخاري و نشأته

ولد الإمام محمد ابن إسماعيل البخاري في مدينة بخارى التي هي إحدى مدن أوزبكستان حاليا، توفي والده و هو ابن السنتين و عاش في كنف أمه التي عرفت بالصلاح و التقوى، و قد حدث و أن فقد ابنها محمد بصره و هو صغير فانفطر قلبها من شدة الحزن و الكمد، و ظلت تدعو الله تعالى و تلح في الدعاء حتى رأت ذات ليلة في المنام النبي إبراهيم عليه السلام و هو يقول لها:  يا هذه قد رد الله تعالى لابنك بصره فلما أفاقت وجدت ابنها وقد أعاد الله إليه بصره.

لقد نشأ البخاري في بيت علم و دين، فقد كان أبوه محدثا فنشأ الصبي على حب الأحاديث النبوية الشريفة، و لم تدخر أمه جهدا في تعليمه أفضل تعليم، فلم يبلغ سن العاشرة حتى حفظ القران الكريم و درس الكثير من كتب الفقه و التفسير و السير، إذ وهبه  الله ذاكرة استثنائية، فكان يحفظ الحديث بمجرد سماعه مرة واحدة، و قلما احتاج إلى تدوينه و زملائه في الفصل يدونون ثم يأتون إليه ليصحح لهم أخطائهم.

و حدثت له و هو في سن الحادية عشر واقعة تظهر مدى نبوغه و ذكائه، إذ اختلف مع احد شيوخه حول حديث، فقال محمد البخاري لشيخه:

– ارجع إلى الأصل المكتوب عندك و تأكد بنفسك.

فلما عاد الشيخ للأصل وجد سلسلة رواة الحديث مرتبة تماما كما ذكرها البخاري، فاثني عليه و كذلك فعل كل من درسه، فقد توسموا فيه الخير و رفعة الدرجة.

أفنى البخاري طفولته في طلب العلم بتشجيع من والدته التي ورث عنها حب الخير و الصلاح، التقوى و الورع  و كذلك هم الأبناء مجبولون على تقليد أبائهم في كل صغيرة و كبيرة، و لذلك قيل:

ليكن أول إصلاحك لبنيك إصلاحك لنفسك، فإن عيونهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما صنعت و القبيح عندهم ما تركت.

كما يروي الأصمعي قصة طريفة عن الطاووس و أبنائه:

مشا الطاووس يوما باختيال           فقلد شكل مشيته بنوه

فقال علام تختالون فقالوا             بدأت به و نحن مقلدوه

فخالف سيرك المعوج و إعدل       فإنا إن عدلت معدلوه

أما تدري أبانا كل فرع              يجاري بالخطى من أدبوه

و ينشأ ناشئ الفتيان منا             على ما كان عوده أبوه

رحلة البخاري في طلب العلم

بعد أن تلقى البخاري العلم من كبار شيوخ بلاده خرسان، سافر ذات مرة مع أمه و أخيه إلى مكة لتأدية مناسك الحج، فمكث هو هناك و رجع أخوه مع أمه إلى بخارى، و هو في تلك البقاع الشريفة ظل يطوف بين حلقات العلم بمكة و المدينة المنورة يجمع الأحاديث النبوية، ثم شد الرحال بعد ذلك إلى العراق و الشام و مصر طلبا للعلم حتى تجاوز عدد شيوخه الألف شيخ، أما تلامذته فلا يحصون عددا، و كل العلماء المسلمين الذين جاؤوا من بعده هم تلامذته.

اختبار لذاكرته

لقد وهب الله تعالى للبخاري كما سبق الذكر ذاكرة حديدية أبهرت الجميع بحيث أنه كان يحفظ الحديث بأسانيده، أي بسلسلة الرواة الذين تناقلوا الحديث دون أن ينسى أحدا أو يخطئ في الترتيب، و قد أراد العلماء في بغداد ذات مرة أن يختبروا ذاكرته، فجاءوا بمائة حديث و قسموها على عشرة رجال لكل واحد عشرة أحاديث، ثم راحوا  يسألونه  بعد أن أحدثوا تغييرات في سلسلة الرواة فجعلوا رواة الحديث الأول للثاني و هكذا، فاستمع إليهم كلهم فلما فرغوا راح البخاري يجيب السائلين الواحد تلو الأخر بنفس الترتيب الذي جاءوا عليه، فيقول للأول أنت قلت كذا و كذا و الصواب في هذا الحديث هو كذا و كذا ثم ينتقل للثاني و هكذا إلى أن أنهى الاختبار دون أن يخطئ في كلمة واحدة، و الأعجب من ذلك أنه تذكر العشر أحاديث التي قالها كل رجل بترتيبها دون أدنى خطا. فتيقنوا عندئذ أن ما عرف عن البخاري من قوة الضبط و الإتقان و سعة الاطلاع لم يكن من المبالغة في شيء.

بداية التأليف

شرع البخاري في التأليف و هو لا يزال صغيرا بعمر 18 سنة، فألف كتبا كثيرة بعضها معروف و بعضها اندثر و من أشهر ما كتبه:  

قضايا الصحابة و التابعين و أقاويلهم،  التاريخ الكبير،  الأدب المفرد ثم كتابه الصحيح الذي كان و لا يزال خير كتب الإسلام.

لم يكن الإمام البخاري أول من دون الحديث النبوي، فقد بذل علماء قبله جهودا جبارة في سبيل جمع و تدوين الأحاديث و استفاد منهم البخاري في كتابه الصحيح سواء من حيث المادة أو الأسلوب، و لقد بدأ ذلك منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم ثم التابعين ثم تابعي التابعين،  لذلك من يقول أن كتابة الحديث لم تبدأ حتى مجيء البخاري فهو غير مطلع كفاية على التاريخ الإسلامي.

كان الحديث النبوي موزعا في أربعة أصناف من الكتب:  

كتب تهتم بالفقه كموطأ الإمام مالك.

كتب تهتم بالتفسير كتفسير ابن جريح.

كتب تهتم بالسير كابن إسحاق.

كتب تتناول جانب الأخلاق و الرقائق كابن مبارك.

هكذا يظهر أن حركة تدوين الأحاديث النبوية كانت قائمة بقرون قبل مجيء البخاري، كما أن مسالة تدقيق الحديث و تمييز الصحيح من غيره كانت ايضا قائمة و السبب في ذلك وجود من كان يكذب على الرسول صلى الله عليه و سلم من المنافقين الذين اظهروا الإسلام و أبطنوا الكفر بهدف إفساد الدين، و ايضا أصحاب البدع و المذاهب المتعصبة، و حتى بعض أهل الدين كان كلما استحسن قولا نسبه للرسول عليه السلام اعتقادا منهم أن ذلك يخدم الإسلام، ثم هناك أحاديث حرفت بسبب النسيان و الخطأ، لذلك كانت هناك محاولات لتمحيص الأحاديث يشكل دقيق  حتى ظهر علم يعرف بالجرح و التعديل، هذا العلم يقوم على تتبع الرجال الذين قاموا برواية حديث معين فيما يخص حياتهم و تاريخهم، و العلماء الذين كانوا يتولون هذه المهمة كان يتوجب عليهم التحلي بالعدالة و الورع التام، و أن يكونوا على معرفة شاملة بالحديث النبوي، كما يجب أن يتصفوا بالتجرد و الموضوعية فلا  يراعوا أي اعتبارات شخصية، فأي راوي تبت عنه قلة الأمانة أو الكذب فلا يقبل حديثه.

قال الله تعالى في محكم التنزيل:  

 إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ

و الذكر هنا يعم القران الكريم و السنة النبوية التي هي أيضا جزء من الوحي، فالله تعالى حفظ السنة كما حفظ القران الكريم من التحريف و التبديل بأن هيأ لذلك رجالا وجودوا في كل عصر و مصر، أخذوا على عاتقهم مهمة ذب الكذب على الرسول عليه السلام.ليضل القران الكريم و السنة النبوية يعصمان كل متمسك بهما من الظلال.

لماذا ألف البخاري كتابه

لقد كان كتاب صحيح البخاري تتويجا لجهود العلماء في حفظ السنة النبوية، يذكر البخاري أنه كان في مجلس الإمام إسحاق ابن راهويه فقال لتلامذته:  

لو جمعتم كتابا مختصرا لصحيح النبي صلى الله عليه و سلم، فقال البخاري فوقع ذلك في قلبي فأخذت في جمع الصحيح.

لقد كانت الحاجة ماسة لوجود كتاب يضم الأحاديث الصحيحة فقط، لأن كتب الدين كانت تضم الصحيح و الضعيف و الموضوع ثم أن يكون مختصرا قدر الأماكن.

هكذا بدأ الإمام البخاري هذا التحدي فوضع شروطا صارمة لقبول الحديث منها:  أن يكون الراوي معاصرا لمن يروي عنه، أي أن يسمع الحديث منه مباشرة، ثم أن يكون الراوي صادقا متصفا بصفات العدالة،  سليم الذهن،  قليل الوهم، ضابطا للعلم و سليم الاعتقاد و قد أمضى البخاري في تأليف هذا الكتاب 16 سنة جاب خلالها مختلف أنحاء العالم الإسلامي في سبيل جمع الأحاديث النبوية،  فسافر إلى العراق و الشام و الحجاز و مصر و خرسان و بعد أن يمحص الحديث و يحققه بالشروط التي وضعها كان يتوضأ و يصلي ركعتين ثم يستخير الله تعالى.

فلما فرغ من كتابته عرضه على كبار علماء الحديث أن ذاك و على رأسهم الإمام ابن حنبل فأقر بصحته و أثنى عليه.

إن الانتقادات التي وجهها العلماء لكتاب صحيح البخاري محدودة جدا و محصورة في بضع أحاديث معدودة على رؤوس الأصابع، فكيف بكتاب يضم 4000   حديث  ستة أحاديث فقط منه هي التي انتقدها بعض العلماء أن يعتبر كتابا غير صحيح و لا يعتمد عليه، هذا بلا شك شيء يخالف المنطق و العقل السليم. و كل الكتب التي حاول مؤلفوها التشكيك في مصداقية هذا الكتاب لم تكن في حقيقة أمرها إلا محاولات فاشلة للنيل من السنة النبوية الشريفة، و لقد رد العلماء الربانيون بالحجج القاطعة على ادعاءاتهم و شبهاتهم و اسكتوا أفواههم.

لقد رفع الله تعالى من قدر البخاري بفضل كتابه الصحيح الذي طهر به السنة النبوية من الأحاديث الضعيفة و الموضوعة، حتى اعتبره العلماء ثاني أصح كتاب بعد القران الكريم، و من منة الله تعالى على البخاري أن حتى شيوخه الذين علموه قد تعلموا منه بعد ذلك و نقلوا عنه ما لم يكن لديهم،  كما أن الذين جاؤوا من بعده من كتاب السنة النبوية كالترمذي و ابن ماجة و النسائي و الحاكم و البيهقي كلهم تلامذة البخاري، و كل علماء الإسلام إلى يومنا هذا هم تلامذته لأن علمهم بالدين لا يكتمل ما لم يدرسوا كتابه  الصحيح،  و ليس تمت من تفسير لهذه المكانة الرفيعة التي بلغها البخاري إلا قوله تعالى:    

( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم )

المصادر

– الشيخ جمال الدين القاسمي – حياة البخاري – مطبعة العرفان – صيدا 1330 هجري

عبد الحميد بن محمد المير – الجامع في سيرة البخاري – منشورات موقع مكتبة الإمام البخاري.

اترك تعليقاً