كل من يتتبع شؤون أمريكا اللاتينية سوف يتردد على مسامعه أسماء لشخصيات ذات أصل عربي، ككارلوس منعم رئيس الأرجنتين ما بين 1989 إلى 1995، عبد الله بوكرم رئيس الإكوادور سابقا، المكسيكي كارلوس سليم احد أثرياء العالم، و القائمة طويلة جدا، إنهم أشخاص ولدوا في أمريكا اللاتينية لكنهم ينحدرون من أصول عربية بلا أدنى شك، إنما ما علاقة العرب بقارة أمريكا اللاتينية التي تفصلهم عنها الآلاف الكيلومترات؟ متى وصولوا إلى هناك؟ و كيف استطاعوا أن يتقلدوا مناصب سامية؟
المفاجأة الكبرى أن عدد العرب في أمريكا اللاتينية ليس بالقليل، فهم يبلغون تقريبا 40 مليون نسمة، تضم البرازيل وحدها 15 مليون عربي و الباقي موزعون في باقي دول أمريكا اللاتينية، خاصة التشيلي الأرجنتين فنزويلا و المكسيك.
دوافع هجرة العرب الى امريكا اللاتينية
بدأت العرب يطرقون أبواب أمريكا اللاتينية في منتصف القرن التاسع عشر، قادمين من بلاد الشام، سوريا، فلسطين و لبنان، التي كانت أن ذاك تابعة للإمبراطورية العثمانية، و السبب الذي دفعهم إلى الهجرة كان الأوضاع الاقتصادية المتردية التي تمر بها تلك المنطقة، و ازداد الأمر سوءا مع مشاركة العثمانيين في الحرب العالمية الأولى، حيث شاع الفقر و انتشرت المجاعة، فمثلا في لبنان حدثت مجاعة كبيرة نجم عنها موت نصف مليون إنسان، و تشريد الآلاف، لقد دفع هذا الوضع المتأزم الناس إلى البحث عن أفاق أخرى في الخارج، و كانت الولايات المتحدة هي الوجهة الأولى و المفضلة، بينما شكلت أمريكا اللاتينية ارض الاختيار الثاني.
و على العموم شكلت دول أمريكا اللاتينية التي نال معظمها استقلالها في أواخر القرن التاسع عشر، أرضا واعدة مقارنة بمناطق أخرى من العالم، كإفريقيا أو أسيا إلا أن انتشار العرب في قارة دول أمريكا اللاتينية لم يكن متساويا، إذ كان يحكمه عدة عوامل كالاستقرار السياسي، الرخاء الاقتصادي أو وجود قوانين تسمح بدخول الأجانب، و عليه لم تكن فنزويلا مثلا نقطة جذب للعرب حتى اكتشف فيها النفط سنة 1917.
شخصية العربي التاجر الناجح
كان يطلق على العرب في أمريكا اللاتينية اسم الأتراك، نظرا لأنهم كانوا يدخلون القارة بجواز سفر تركي، و لقد أشار الأدب اللاتيني إلى ذلك في الكثير من الروايات و القصص، ففي إحدى الروايات الكوبية1 يقول رجل لزوجته و هو يحاورها:
“التركي! لم يرد أن يبيع لي الفوط بالتقسيط”
في هذه العبارة يتضح لنا ايضا النشاط الذي كان يمارسه العرب في أمريكا اللاتينية، فهم في العادة كانوا يعملون كباعة متجولين، ثم شيئا فشيئا انشئوا دكاكين، فمثلا في كولومبيا كانت كل مدنها تضم إلى جانب الميادين و الكنائس محلا عربيا هو مكان للتجارة و تجمع العامة، ثم سرعان ما تحولت تلك الدكاكين إلى متاجر كبيرة ففي ساو باولو لم يكن هناك سنة 1907 سوى 320 متجر عربي لكن سنة 1916 أصبح هناك 3700.
لقد كانت موجة الهجرة الأولى فردية، بمعنى أن المهاجر كان يأتي بمفرده و هدفه الأول تكوين الثروة ثم إرسالها إلى عائلته في بلده الأم، لكن الموجة الثانية من الهجرة كانت عائلية و هدفها الاستقرار النهائي، و مع مرور الوقت لم يعد العربي مقتصرا على التجارة فقط بل وضع يده ايضا على الصناعة، خاصة صناعة النسيج، حتى أصبح% 90 من إنتاج النسيج في التشيلي% 50 في الأرجنتين يأتي من مصانع ملاكها عرب و ذلك قبل الحرب العالمية الثانية.
النجاح تلو النجاح
بعد هذا النجاح الاقتصادي الباهر الذي حققه العرب في أمريكا اللاتينية، أخذت الأجيال الموالية منهم ترتاد الجامعات، و تنضم للأحزاب السياسية، و هذا ما فتح الباب على مصراعيه لكي يتبوءوا مناصب رفيعة، حتى أن الكثير منهم وصلوا إلى سدة الرئاسة في عدد من دول أمريكا اللاتينية.
ينظر الكثير إلى ما حققه العرب من انجازات في مختلف المجالات بأمريكا اللاتينية على انه نموذج للاندماج الناجح، حيث أنهم ساهموا بشكل كبير في بناء اقتصاديات دول المنطقة، حتى قال رئيس المكسيك ادولفو ماتيوس سنة 1962 اعترافا للعرب بمجهوداتهم “من ليس له صديق لبناني فعليه أن يجد واحدا!”
لقد وجد العرب في أمريكا اللاتينية أرضا خصبة لتحقيق أحلامهم، ففي إحدى الروايات اللاتينية2 يصف احد أبطالها و هو شخص عربي بلاد التشيلي قائلا
“يروق لي هذا البلد، أغنياء و فقراء، سمر، بيض كلهم طبقة واحدة، كلهم شعب واحد، كل فرد يشعر بأنه صاحب الأرض التي يطأها”
“أي احد يمكن أن يصعد أو يسقط، يمكنه أن يكون مليونيرا، رئيسا آو متسولا، كل ذلك حسب اجتهاده أو حظه أو إرادة الله”
و إن كان البعض يدعي بأن سبب نجاح هذا الاندماج في أمريكا اللاتينية كون معظم العرب المهاجرين كانوا مسيحيين كاثوليك، فإن ذلك ليس صحيحا مائة في المائة، فالذين هاجروا من العرب كانوا من مختلف الأديان و الطوائف، فيهم المسيحيين الكاثوليك و المارونيين و المسلمين و الدرز.
عرب امريكا اللاتينية و الهوية المفقودة
أما عن درجة ارتباط العرب بوطنهم الأم الشرق الأوسط، فإن معظمهم في الحقيقة فقد ذلك الارتباط مع مرور الوقت، بل منهم من قطع أواصر الانتماء مع وطنه الأصلي بمجرد وصوله للعالم الجديد، نتكلم هنا خاصة عن المهاجرين الذين جاؤوا صغارا، في إحدى الروايات للكاتب جورجي امادو يحكي فيها وصول مهاجر عربي اسمه نسيب إلى أمريكا الجنوبية قائلا:
“في البداية جاء أبوه و أعمامه بدون عائلاتهم، بعد ذلك جاء نسيب مع أمه و أخته الأكبر منه عندما لم يكن قد بلغ الرابعة بعد، كان يستحضر باستمرار سفره و النزول في باهيا (ولاية برازيلية) حيث انتظره أبوه، ما لم يكن يستحضره ذكرياته في سوريا، و لا ذكرى واحدة بقيت في ذاكرته عن مسقط رأسه حتى أنه خلط بينها و بين وطنه الجديد، كان نسيب يعتبر نفسه قد ولد في نفس لحظة وصول المركب لباهيا، ثم أخده أبوه إلى مكتب التسجيل ليسجله كبرازيلي.”
هنا يظهر كيف أن معظم العرب فقدوا هويتهم و ذابوا في المجتمع اللاتيني حتى اللغة العربية ستجد القليل الذي يجديها فلقد ظل الجيل الأول يتحدثون العربية و حافظوا عليها داخل عائلاتهم بيد أن الجيل الثاني أي جيل الأبناء بدا يهمل اللغة العربية أو يخلطها مع الاسبانية و البرتغالية ثم أتى الجيل الثالث جيل الأحفاد فكان القليل منهم من يعرف العربية و السبب في ذلك أن الكثير من العرب تزاوجوا مع السكان المحليين فأخذت اللغة تندثر شيئا فشيئا أضف إلى ذلك لم يكن هناك حافز كبير لتعلم لغة لن يجد معظمهم الفرصة لممارستها إلا نادرا.
التأثير العربي في أمريكا اللاتينية
رغم كونهم أقلية فإ ن التأثير العربي في أمريكا اللاتينية حاضر في أكثر من مظهر، فأكلة الطاكوس الشهيرة التي ظهرت في المكسيك هي في الأصل عربية، و مستمدة من أكلة الشورما المنتشرة في الشرق الأوسط، أما في التشيلي فيوجد نادي شهير لكرة القدم اسمه بالاستينو و هو من أندية العاصمة سانتياغو، اتخذ من علم فلسطين شعارا له.
المصادر
ريجوبيرتو ارنانديز باريديس – صورة العربي في سرديات امريكا اللاتينة – احمد عبد اللطيف – هيئة ابو ظبي للسياحة و الثقافة – 2015
1 الوجود العربي الخاطف في السرد الكوبي ص 27 من المصدر اعلاه