You are currently viewing قصة اكتشاف التخدير

قصة اكتشاف التخدير

لقد كانت الغاية الأسمى التي سعى إليها الانسان منذ القدم هي جعل حياته أفضل و أسهل، و قد تحقق له شيء من ذلك عبر مجموعة من الاكتشافات و الاختراعات، فاكتشف النار و اخترع الكهرباء و استغل المعادن لكن من بين أكثر الاكتشافات التي أثرت بشكل جذري في حياة الانسان كان اكتشاف التخدير. فهو مما لاشك فيه أعظم ما توصلت إليه البشرية، فإن الكلمات لتعجز عن وصف مقدار الالم و المعاناة التي كان يتعرض لها المريض قديما حينما يقوم الطبيب ببتر عضو من أعضاءه و هو في كامل وعيه. فأتى التخدير لينقد البشرية من هذا العذاب، لذلك يمكن القول بما لا يدع مجال للشك أن الطب بصفة عامة لم يكن ليتطور لولا التقدم الحاصل في التخدير.  

البدايات الاولى للتخدير

حاول الانسان منذ القدم أن يضع حدا للألم أثناء الجراحة بيد أن الوسائل التي استخدمت لم تكن تفي بالغرض غالبا بسبب بدائيتها، مما كان يعرض حياة المريض للخطر و هذه بعض أشهر الطرق المستخدمة قديما:

  • ربط المريض في مائدة العمليات برباط متين، و بعد أن يتم تثبيته بمساعدة رجال أشداء يشرع الطبيب في القيام بالعملية الجراحية، و غالبا ما كان المريض يموت من شدة الالم.
  • وضع قطعة كبيرة من الثلج فوق الجزء المصاب حتى يفقد المريض الاحساس به مما يتيح للطبيب القيام بالجراحة.
  • وضع رباط ضاغط حول العضو الذي سيخضع للعملية الجراحية حتى ينقطع الدم عنه و ذلك لكي يفقد المريض الاحساس به.
  • ضرب المريض بمطرقة خلف رأسه حتى يفقد وعيه ثم يشرع الطبيب في عمله، تكمن مشكلة هذه الطريقة في عدم معرفة مدة فقدان الوعي فقد يستيقظ المريض أثناء العملية الجراحية

كما جرب الاطباء أيضا التنويم المغناطيسي، و استعانوا بالإيحاء بحيث كانوا يحاولون اقناع مرضاهم بأنهم لن يشعروا بأي ألم على الإطلاق، لكن هذه الوسائل لم تنجح في الغالب.

و حتى يجنب الجراحون مرضاهم الاحساس بالألم الشديد فقد كانوا يستعينون  بالسرعة و الدقة، حتى أن مهارة الطبيب الجراح قيضت بحسب سرعته.

و في المجمل فقد كانت العمليات الجراحية في الماضي عذابا ما بعده عذاب، فالخيارات التي كانت أمام الاطباء محدودة و غير موثوقة في أغلب الاحيان، حتى كان الناس يفضلون تحمل المرض على الخضوع لعملية جراحية قد تفضي بهم الى الموت.

استخدام النباتات في التخدير

في بحث الانسان عن طرق لتسكين الالم الشديد فقد وجد أن لبعض النباتات القدرة على افقاد الانسان وعيه و لو جزئيا و بالتالي يمكن استخدامها كمخدر في العمليات الجراحية، و أحد أشهر النباتات التي استخدمت في هذا الغرض هناك نبتة الخشخاش و التي من ثمرتها يتدفق سائل لزج ابيض اللون هو الافيون، الذي يمتلك سمعة سيئة لأن منه يصنع مخدر الهيروين. بيد أن الناس استخدموه في السابق كمخدر في العمليات الجراحية.

كما استخدم أيضا القنب الهندي و نبات البنج و نبتة الكوكا التي تنمو في أمريكا الجنوبية، بيد أن المشكلة التي كانت تعترض كل من يريد استخدام هذه النباتات لتسكين الالام هو أنه و لكي تعطي مفعولها لابد أن تعطى بجرعات كبيرة و هذا ما قد يعرض المريض للخطر.

التخدير عند المسلمين

لقد عرف التخدير باستخدام النباتات عند مختلف الشعوب القديمة، بيد أن العرب المسلمين برعوا في هذا المجال حتى أنهم اخترعوا ما كان يعرف بإسفنجة التخدير و هي عبارة عن إسفنجة توضع في سائل من النباتات المخدرة ثم يطلب من المريض استنشاقها فيفقد وعيه، تذكر المستشرقة الالمانية زيغريد هونكه في كتابها شمس العرب تسطع على الغرب عن التخدير عند المسلمين قائلة:

كم كان التخدير العربي فريدا من نوعه صادقا في مفعوله رحيما بمن يتناوله، و هو يختلف كل الاختلاف عن المشروبات المسكرة التي كان الهنود و اليونان و الرومان يجبرون مرضاهم على تناولها كلما ارادوا تخفيف ألامهم

و تقول الكاتبة نفسها حول الإسفنجة المخدرة:

إن فن استخدام الإسفنجة المخدرة فن عربي بحث لم يعرفه أحد من قبلهم، و كانت توضع هذه الإسفنجة المخدرة في عصير من الحشيش و الافيون …. ثم تجفف في الشمس و لدى الاستعمال ترطب ثانية و توضع على أنف المريض فيركض المريض الى نوم عميق يحرره من أوجاع العمل الجراحي.

التخدير الحديث

يتضح مما سبق أن التخدير كان شائع منذ القدم بيد أن الوسائل التي كانت متاحة أمام الاطباء لم تكن فعالة بما يكفي، و هنا قد يتساءل القارئ من هو هذا الشخص الذي طور التخدير من هو ذاك الذي يستحق أن ينال لقب مؤسس علم التخدير الجواب هو الطبيب الامريكي وليام مورتون.

ولد مورتون في الولايات المتحدة سنة 1819 عمل كطبيب أسنان و كان شديد التأثر بمعاناة مرضاه فظل يبحث عن مادة مخدرة تريح البشرية من الالام الجراحة الى ان توصل الى استخدام غاز الايثر، فجربه في البداية على كلبه فنجح الامر و في سنة 1864 تجمهر جمع غفير من الناس ليروا مورتون و هو يجري عملية جراحية باستخدام الايثر، فتم الامر بنجاح و عبر المريض بعد استيقاظه أنه لم يشعر بأي ألم على الاطلاق، و ما لبث هذا الخبر ان انتشر كالبرق في مختلف انحاء العالم.

و من الطريف أن نذكر أن غاز الايثر ينتج عن تفاعل كل من الكحول و حمض الكبريت، و تكمن المفاجأة أن الذي استخرج الكحول أول مرة هو العالم المسلم الكندي فيما اكتشف الرازي حمض الكبريت، و على هذا الاساس فإن العلماء المسلمين هم من أسسوا القواعد الاولى لاكتشاف الاثير.

ثم توالت الاكتشافات بعد ذلك، فاكتشف الطبيب الاسكتلندي جيمس يانغ سمبسون التخدير بواسطة مادة تدعى الكلوروفورم،  و كان قد استخدمه في الأصل لتخفيف ألام المخاض بيد أن الكنيسة رفضته في البداية معتبرة أن الألم أثناء الولادة ضروري لتطهر المرأة من ذنوبها، و قد انتشر استخدام هذه المادة في الجراحة إلى حدود  الثلاثينات من القرن العشرين حيث تم منعه بسبب أعراضه الجانبية.

و مع اكتشاف مواد مخدرة جديدة و تصنيع أخرى استطاع الانسان السيطرة على الألم،  و بفضل ذلك أصبح الولوج إلى قاعة العمليات أكثر أمنا و طمأنينة.

حقا إن وضع حد لمعاناة الانسان خلال الجراحة لهو خير و أعظم انجازات العلم و لذلك نحن مدينون للكثير من العلماء ممن أسهموا في هذا الانجاز  نحن مطالبون أن نرفع القبعة احتراما و تقديرا لكل من الكندي و الرازي و ابن سينا و مورتون و سمبسون و كل من ساهم من قريب او بعيد في تحقيق الخير للبشرية.

المصادر

نزار مصطفى كحله. التخدير و الانعاش عبر التاريخ. وزارة الثقافة السورية. 2002

التخدير و تاريخه. منظمة الصحة العالمية. المكتب الاقليمي للشرق الاوسط. البرنامج العربي لمنظمة الصحة العالمية

اترك تعليقاً