هل سبق لك أن حددت أهدافا معينة في حياتك ثم وجدت نفسك فجأة و قد تخليت عنها بسرعة ؟ لنفترض مثلا أن كان هدفك هو قراءة كتاب كل أسبوع، مما لا شك فيه أنك كنت متحمسا في البداية، لكن شيئا فشيئا بدأ هذا الحماس يخبو، إذ أصبحت تجد صعوبة بالغة في الالتزام بهذه المهمة ثم في نهاية المطاف تركتها، و عدت لإضاعة الوقت في أشياء عديمة الفائدة، لقد قمت بصياغة خطة واضحة على ما يبدو إذن أين كان الخلل ؟ في الواقع لم يكن الخلل في الهدف الذي سطرته، بل في الأسلوب الذي اتبعته، فالناس قد يتشاركون في الهدف نفسه لكن الأسلوب هو الذي يحدد من سيفوز في النهاية، أكثر الناس يعتقدون أن النجاح يتطلب القيام بمهام كبيرة و شاقة، قد يعجز عنها الكثيرون، و لكنه في الواقع ما هو إلا تراكم لنجاحات صغيرة، فقشة بعد قشة يصنع العصفور عشه، في هذه المقالة سأقترح عليك أحد أفضل الطرق لتحقيق أهدافك مهما بدت لك صعبة المنال، و ذلك بأن تدخلها في منظومة العادات الصغيرة، مجرد فعل بسيط إذا كررته حتى يصبح عادة فبمقدوره تغيير حياتك، و جعل أهدافك تتحقق على أرض الواقع.
معنى العادات
معظم الناس يبذلون جهدا كبيرا للوصول إلى أهدافهم، لكن غالبا ما يصابون بالعجز و الكسل، فيتركون أهدافهم لأولئك الذين يمشون ببطء لكن باستمرار و مثابرة.
في المعجم العربي تعني العادة ما يفعله الناس أو الشخص على حكم العقل مرة تلو المرة، من غير تكلف، و في تعريف أخر العادة هي كل ما أعتيد حتى صار يفعل من غير جهد، بمعنى أن جسمنا و عقلنا يصبح مبرمجا على أداء ذلك الفعل، في الواقع سوف تتفاجئ عندما تعلم أن جزءا كبيرا من حياتك قائم على العادات، فما تفعله خلال وقت الفراغ و ما تحب تناوله، طريقة كلامك و تحليلك للأحداث، كلها ليست قرارات بقدر ما هي عادات.
كيف تتشكل العادات ؟
إذا كان للعادات كل هذه المكانة فمن الضروري معرفة كيف تتشكل، يبدأ الأمر كله بمجرد اتخاذ قرار للقيام بسلوك ما كالقراءة مثلا أو أداء التمارين الرياضية، إتباع نظام غدائي صحي، إذا كررت هذا السلوك مرات و مرات فإنه سيصبح عادة، و عندما يصبح عادة فإنه يصير جزءا من هويتك، و بالتالي تقدم على فعله بسهولة من غير مقاومة لعقلك، فالشخص الذي جزء من هويته القراءة ليس في حاجة أن يقنع نفسه بالقراءة كل مرة حتى يقرأ، و كذلك الشخص الذي جزء من هويته ممارسة الرياضة، سوف يمارسها كيفما كانت الظروف و بالتالي كل عمل تفعله و تكرره فأنت تزيد من احتمالية أن يصبح جزءا من هويتك.
احد أصدقائي أكد لي من خلال كلامه صدق هذه المعادلة، حكى لي أنه ذات مرة عندما كان في المدرسة الثانوية، طرح على أستاذه سؤالا فما كان من هذا الأخير إلى أن استهزأ به، و جعله أضحوكة أمام كل زملاءه في الفصل، شعر بالإحراج الشديد و أخد على نفسه عهدا بأن لا يطرح أو يجيب عن سؤال اعتبارا من ذلك اليوم، تدريجيا تحول ذلك القرار بسبب التكرار إلى عادة ثم أصبح جزءا من هويته، بحيث تحول إلى شخص انطوائي، خجول يتجنب الكلام خوفا من أن يثير استهزاء الآخرين، و وجد صعوبة بالغة في الخروج من تلك الحفرة التي حفرها بيده.
حكى لي شخص أخر كيف أنه كان يجالس رفقة اعتادوا على الاستهزاء به، فقرر أن يتقبل الأمر خوفا من أن يصبح وحيدا، و مع تكرار الأمر نفسه أصبح عادة و جزءا من شخصيته، بحيث أنه كلما جالس أناسا إلا و توقع منهم الاستهزاء، و تقبله مهما كان جارحا، لقد أصبح من مكونات هويته فقدان الثقة في النفس، و الإحساس بأنه شخص جدير بالسخرية ربما بسبب شكله أو تصرفاته.
ربما يكفي هذين المثالين لإظهار كيف لقرارات صغيرة ربما لا نلقي لها بالا أن تغدو جزءا من شخصيتنا، بسبب تحولها لعادات، الخبر السار هو أن هذه الأخيرة تعمل في الاتجاهين معا، فمن الممكن أن تجعل منك شخصا واثقا من نفسه و ايجابي، أو عكس ذلك تماما.
دماغنا و العادات
يقول عالم النفس الأمريكي وليام جيمس، إن حياتنا كلها رغم أنها تتخذ شكلا محددا عبارة عن كتلة من العادات
حاول العلماء منذ القدم فهم كيفية عمل العادات، رغبة منهم في مساعدة الناس على اكتساب عادات جيدة و التخلص من تلك السيئة، و في سبيل ذلك قاموا بعدة تجارب، في إحداها تم وضع فأر في متاهة على شكل حرف T ، وضع في أحد أركانها قطعة شوكولاتة، بمجرد ما يرن صوت الجرس ينفتح باب فيدخل الفار المتاهة، و في أثناء ذلك كان العلماء يقومون بتسجيل النشاط الدماغي للفأر.
في المرة الأولى التي دخل فيها الفأر المتاهة كان النشاط الدماغي المسجل كبيرا، فلكون المكان غير مألوف بالنسبة للفأر فقد كان يتحتم عليه استخدام كل حواسه، و تحليل المعلومات التي تصله بدقة، لذلك كانت حركته تتسم بالعشوائية و استغرق وقتا طويلا للوصول إلى قطعة الشوكولاتة.
أخد العلماء يكررون التجربة مع نفس الفأر ليتوصلوا بعد ذلك لنتائج مبهرة، إذ أصبح الفأر يتجه بسرعة و سهولة نحو مكان الشوكولاتة، كما أصبح نشاطه الدماغي ضعيفا تبعا لذلك، معنى هذا أن أماكن اتخاذ القرار داخل الدماغ قد توقفت بشكل شبه تام، و أصبح الفأر يقوم بالمهمة دون حاجة للتفكير.
إن دماغنا يسعى إلى الاقتصاد على الطاقة، لذلك فهو يعتمد في الغالب على العادات، لكنه لا يفعل ذلك إلا إذا رأى إشارة تجعله يسلم الأمر للعادة باطمئنان، فبالنسبة لتجربة الفأر فإن الإشارة كانت صوت الجرس، لكن لو استبدل هذا الأخير بصوت هرة مثلا هنا يعلم الفأر أن عليه أن يتخذ قرارا و لا يفوض الأمر للعادة. فكأن الدماغ يقول إذا حصل هذا فافعل هذا، و ذلك من أجل أن يوفر الطاقة لأنشطة أخرى تحتاج للتحليل.
غالبا ما تتشكل العادات عن غير قصد منا، لنجد أنفسنا فجأة أسرى لعادات سيئة تدمر حياتنا، كالتدخين، الأكل الغير صحي، تضييع الوقت، الكسل، إذا فهمنا جيدا كيف تعمل العادات فسنتمكن من تشكيل عادات جيدة لتحل محل السيئة.
مفهوم العادات الصغيرة
إذن كيف يمكن أن نبني العادة، هل يلزمك لتصبح قارئا محترفا أن تقرأ كتابا كل أسبوع؟ ثم ماذا إذا كنت تريد أن تكتسب عادة الرياضة، بحيث تشرع في القيام بها دون أن تخوض معركة ضارية مع عقلك، هل عليك أن تخصص ساعة كل يوم للتدريب؟
في الواقع كلما كانت المهمة التي وضعتها لاكتساب العادة كبيرة كلما كانت أكثر عرضة للتماطل و التسويف و من تم الفشل، و في المقابل إذا كانت المهمة التي بدأت بها صغيرة و بسيطة فإنها أكثر قابلية لتترسخ و تصبح عادة، فبدلا من قراءة كتاب كل أسبوع إكتفي بقراءة صفحتين كل يوم، إنها مهمة يسيرة لا تتطلب منك جهدا كبيرا أو وقتا طويلا، و بالتالي فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن يطالها التسويف، إن الحكمة من تبني أسلوب العادات الصغيرة هي أن تكون المهمة التي ألزمت نفسك بها سهلة لدرجة يمكنك تأديتها حتى و أنت في أسوء أحوالك.
هناك قاعدتان تقومان عليهما العادات الصغيرة
فعل شيء قليل هو قطعا أفضل من أن لا تفعل شيئا على الإطلاق.
أن تفعل شيئا قليلا كل يوم هو خير من أن تفعل شيئا كثيرا على فترات متقطعة، لأن ذلك القليل هو المرشح ليصبح عادة مع التكرار، و بالتالي ستصبح قادرا على أداءه دون جهد و هذا ما لا يتوفر في الكثير الذي ينجز بين الفينة و الأخرى، فليس ما نفعله مرة هو الذي يشكل حياتنا بل ما نقوم به باستمرار.
يذكر كاتب ستيفن غييس مؤلف كتاب العادات الصغيرة كيف استطاع أسلوب العادات الصغيرة أن يغير حياته للأفضل ، فلطالما كان يسعى لامتلاك جسم رياضي ، من اجل ذلك ألزم نفسه بالتدريب لمدة نصف ساعة كل يوم ، و ليحفز نفسه أكثر زين جدران غرفته بصور لأجسام رياضيين مشهورين لعل ذلك يوقظ همته لكنه كان يجد دائما صعوبة في الالتزام بالتمارين الرياضية ، إذ كان يفكر على الدوام في نصف ساعة من التعب و الإرهاق التي تنتظره حتى نفر من الرياضة و عاد لما كان عليه في السابق ، فخطرت في باله فكرة ذات مرة و هي لماذا لا يكتفي يتمرينة ضغط واحدة كل يوم إنها مهمة جد بسيطة لا تتطلب جهدا أو وقتا ، ألزم نفسه بضغطة واحدة فإذا كان في حالة مزاجية جيدة أضاف إليها ما يشاء ، و غالبا ما كان يحدث ذلك و استمر على هذه الحال لمدة طويلة ، و بتكرار هذا السلوك أصبح عادة و تحول إلى جزء من هويته ، بحيث لم يتخلف عن أداء هذه المهمة في يوم من الأيام.
الحماس أم العادات الصغيرة أيهما أفضل؟
الحماس هو تلك الرغبة التي تتملكك لتحقيق هدف معين ، و عادة ما يتولد بعدما يتغذى العقل بعبارات تحفيزية ، مما لا شك فيه أن الحماس و التحفيز يساعداننا على تحقيق أهدافنا ، لكن إلى أي حد يمكننا أن نعتمد عليهما من أجل تحقيق أهداف بعيدة المدى؟
لنفترض مثلا أن كان هدفك هو اكتساب مهارة الكتابة ، فقمت بتشجيع نفسك على كتابة صفحتان كل يوم معتمدا في ذلك على عبارات تحفيزية و تشجيع الأصدقاء ، هل يمكنك الالتزام بهذه المهمة عندما تكون متعبا مثلا أو في حالة مزاجية سيئة؟.من المؤكد أنه في مثل تلك الأحوال لن تنفعك أي عبارات تحفيزية مهما كانت قوتها ، إن الشعور بعدم الرغبة في فعل شيء يجعلك تضع أهدافك جانبا ، و قد يدوم ذلك الشعور مدة طويلة حتى تضعف رغبتك في تحقيق الهدف أو تتلاشى ، مما يعني أن التحفيز لا يعول عليه دائما ، نحن نحتاج من أجل تحقيق أهدافنا للاعتماد على وسائل قوية و متينة ، و ليس لوسائل هشة سريعة التقلب.
من هذا المنطلق يظهر فعالية العادات الصغيرة إذا ما قورنت بالتحفيز ،فالعادات الصغيرة كما سبق و أن أشرنا هي مهام صغيرة سوف تؤديها كيفما كانت حالتك النفسية أو البدنية لأنها لا تتطلب وقتا أو جهدا و هي مع مرور الوقت ستصبح جزءا من هويتك ، بحيث لن تستطيع التخلي عنها ، إن التحسن بنسبة %1 كل يوم سوف يؤدي إلى إحداث تغيير جدري في حياتك مع مرور الوقت ، فالانجاز العظيم ما هو إلا تراكم للنجاحات الصغيرة.
العادات الصغيرة هل تعني بطء الانجاز ؟
هذا هو ما يبدو في الظاهر ، فلو كان هدفك هو قراءة كتاب يحتوي على 200 صفحة و إكتفيت بقراءة صفحتين كل يوم فأنت على هذا الأساس في حاجة ل 100 يوم ، كما أنك لو اكتفيت بتمرينة ضغط واحدة فذلك لن يحدث أي تغيير كبير في جسدك ، أما إذا ألزمت نفسك بكتابة خمسة أسطر في اليوم فسوف تجعل قراءك ينتظرون كتابك ربما لأعوام.
إن العادات الصغيرة في واقع الأمر سوف تدفعك لعمل أكثر مما سطرته مسبقا ، فما هي إلا قوة دافعة لا أكثر كيف ذلك ؟
لو كان هدفك هو قراءة صفحتين كل يوم فستجد أنه من النادر أن تكتفي بذلك ، لأنك تلقائيا سوف تندفع لقراءة المزيد ،لكن إذا كنت في أسوء أحوالك فستكتفي بالصفحتين فقط ، يربط كاتب كتاب عادات صغيرة ذلك بقانون مشهور في الفيزياء و هو قانون نيوتن للحركة.
يقول هذا القانون ، الجسم الساكن يبقى ساكنا و المتحرك يبقى متحركا ما لم تؤثر فيهما قوة خارجية ، بمعنى أن الأشياء لا تتحرك أو تتوقف من تلقاء نفسها بل يتطلب الأمر قوة خارجية لتتسبب في التغيير.
عندما تتبنى إستراتيجية العادات الصغيرة فإنك تنقل نفسك من حالة السكون إلى حالة الحركة ، و بما أنك في حركة فلا شيء سيوقفك أي أن العادات الصغيرة ما هي في الواقع إلا وسيلة لإخراجك من حالة الجمود إلى حالة الحركة و الإنتاج ، و لذلك عادة ما ستجد نفسك تنجز أكثر مما ألزمت به نفسك.
إن دماغنا يقاوم التغيرات و يميل إلى إبقائك في منطقة الراحة ، لأنه يخشى من التجارب الجديدة التي يجهل نتائجها ، لذلك نحن نحتاج أن تكون خطوتنا الأولى نحو تطوير انفسنا سهلة و يسيرة و هذا ما توفره العادات الصغيرة.
كيف نتخلص من العادات السيئة ؟
من المؤكد أن بعض العادات السيئة قد تحتاج لأخصائي علاج الادمان ، عندما يتعلق الامر مثلا بتعاطي المخدرات أو الادمان على شرب الخمر ، لكن الكثير من العادات السيئة الأخرى كالكسل و الخمول ، تناول أطعمة غير صحية ، التدخين ، تضييع الوقت في المقهى أو في وسائل التواصل الاجتماعي يمكن التخلص منها بإدراج عادات جيدة مفيدة ، و بذلك لا يصبح هناك متسع من الوقت للعادات السيئة ، فبمجرد أن تتوقف عن سلوك غير مفيد فإنه يتلاشى مع مرور الوقت و يخرج من خانة العادات.
العادات الصغيرة من منظور ديني
سئل الرسول صلى الله عليه و سلم أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: أدومها و إن قل
أي أن أفضل الأعمال هو ما اتسم بالاستمرارية، فتراكم النجاحات الصغيرة سوف يقود حتما إلى انجاز عظيم، كما سئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كيف كان عمل الرسول صلى الله عليه و سلم هل كان يخص شيئا من الأيام؟ قالت: لا كان عمله ديمة و أيكم يستطيع ما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يستطيع.
فالبركة في المداومة و لو كان ذلك العمل يسيرا، فقليل دائم خير من كثير منقطع.
المصادر
Stephen guise . 2013 . Mini Habits Smaller habits . Bigger results
تشارلز دويج . قوة العادات لماذا نعمل ما نعمل في الحياة الشخصية و العملية . مكتبة جرير . 2013