You are currently viewing لماذا ظهرت الفلسفة في اليونان؟

لماذا ظهرت الفلسفة في اليونان؟

طاليس، فيتاغورس، سقراط، افلاطون، أرسطو و القائمة طويلة إنها أسماء لفلاسفة يونانيين داع صيتهم قديما و حديثا، لقد ارتبط اسم اليونان بالفلسفة فهذه البلاد هي التي قدمت أعظم الفلاسفة على الاطلاق، ما الذي جعل اليونان تحظى بهذه الميزة الفريدة؟ لماذا ظهرت الفلسفة في اليونان؟

ما هي الفلسفة و ما اهتماماتها؟

قبل أن نعرف لماذا ظهرت الفلسفة في بلاد اليونان لا بأس أن نفهم معنى الفلسفة، فهي كلمة يونانية تعني حب الحكمة أما اصطلاحا فهي البحث عن حقائق الاشياء، فالفلسفة تعلمنا التفكير و التساؤل المستمر و الفيلسوف هو الشخص المحب للحكمة الباحث عنها، لقد كان الفلاسفة يتجنبون أن يصفوا أنفسهم بالحكماء، و قد سئل سقراط ذات مرة هل الفلاسفة حكماء فقال الحكمة لله وحده و إنما للإنسان أن يجد للمعرفة و في استطاعته أن يكون محبا للحكمة، تواقا للمعرفة، باحثا عن الحقيقة.

فإذا كان الطبيب يهتم بالداء و الدواء، و المهندس يصمم ينشئ و يبني، و عالم النباتات مهتم بدراسة أنواع النبات فما الذي يهتم به الفيلسوف إذن؟

الحقيقة أن كل الناس قد مارسوا الفلسفة في وقت من الأوقات، فليس منا من لم يتساءل ذات مرة عن أصل الكون، و عن سبب حدوث بعض الظواهر الطبيعية، هذه الأسئلة هي من صلب اهتمام الفلسفة و على هذا الأساس كل الناس يتفلسفون لكن لا يمكن أن نسميهم فلاسفة، فليس كل من أصلح كرسيا في منزله سمي نجارا فكذلك لا يسمى المرء فيلسوفا إلا إذا كرس وقته لمعرفة حقائق الاشياء، و بحث عن المعرفة لذاتها و ليس لأي فائدة عملية اخرى.

فالفلسفة هدفهما محاولة إيجاد تفسير عقلاني لأمور يعتبرها الناس من المسلمات، فقد يعبر الناس عن شيء ما بأنه جميل و الاخر قبيح أما الفيلسوف فلا يكتفي بهذه النظرة السطحية بل يبحث عن ذلك الأساس الذي بموجبه اعتبر هذا الشيء جميلا و ذاك قبيحا، هل الجمال قائم بذاته أم مرده نظرتنا للشيء هل تمت أشياء مشتركة في كل ما هو جميل مثل هذه الأسئلة هي التي تراود مخيلة الفيلسوف فيسعى لإيجاد اجابات لها.

تتناول الفلسفة مجالات شتى كالسياسة، الاخلاق، الدين، الاقتصاد، الطبيعة.

عوامل ساهمت في ظهور الفلسفة في اليونان

إن السؤال عن أصل الوجود و الرغبة في معرفة حقائق الاشياء أمور راودت الانسان منذ القدم، فالإنسان مجبول على حب الاستطلاع، و من المؤكد أنه في كل شعوب العالم القديم كان هناك أناس كرسوا حياتهم لمحاولة ايجاد أجوبة لمثل هذه التساؤلات و لم يكن اليونانيين قطعا أول من فعل ذلك، بيد أن هناك عوامل ساعدت في جعل اليونان أرضا للفلاسفة أكثر من غيرها و هي كالتالي:

الموقع الجغرافي

تقع اليونان جنوب شرق أوربا، تطل على البحر الابيض المتوسط و هي قريبة من مراكز الحضارات القديمة الكبرى مصر و حضارة بلاد الرافدين، تتمتع بمناخ متوسطي معتدل مما يجعلها ملائمة للاستقرار البشري، كما تمتلك عددا كبيرا من الجزر يصل ل 2000 جزيرة بعضها غير مأهول. أرض اليونان عبارة عن جبال و هضاب قسمت البلاد إلى اجزاء.

إن الموقع اليونان الاستراتجي القريب من اسيا و افريقيا جعلها على اتصال مع شعوب الحضارات الاخرى، أضف إلى ذلك أن الكثير من اليونانيين كانوا تجارا هذا ما وطد علاقتهم مع الشعوب المجاورة فاستفادوا كثيرا من علومهم و افكارهم.

النظام السياسي

لقد قسمت التضاريس سكان بلاد اليونان و جعلتهم يعيشون في مجتمعات صغيرة متفرقة ثم اصبحت تلك المجتمعات كيانات مستقلة الواحدة عن الاخرى، و ظهرت الدولة المدينة أي دولة كاملة قائمة في حدود مدينة واحدة  كأثينا و اسبارطا، و نظرا لقلة عدد سكان تلك المدن الدول فقد كان بإمكان  نسبة كبيرة من السكان أن تشارك في تسيير شؤون البلاد، و بذلك نشأ النظام الديمقراطي.

لقد وفرت الديمقراطية جوا مناسبا لظهور فكر حر، فلم يكن هناك قمع للآراء و المعتقدات بل كان بإمكان عامة الناس أن يطرحوا افكارهم و يناقشونها بكل حرية في ساحات عامة كأغورا  Agora المتواجدة في اثينا و التي تعني مكان مفتوح للجميع، هناك كان الناس على اختلاف مشاربهم يجتمعون و يناقشون قضاياهم، و كان من حق كل مواطن اثيني الذهاب إليها، فكان التجار و السياسيون و الحكماء و عامة الناس يجتمعون في مكان واحد فيتبادلون الافكار و في هذه البيئة ازدهرت الفلسفة.

تأثير الحضارات السابقة

إن اهم العوامل التي ساهمت في ظهور الفلسفة في بلاد اليونان هو تأثرها بالحضارات الكبيرة التي سبقتها أو عاصرتها، فاليونانيون قد اخذوا الكثير من افكار الشعوب المجاورة لهم سواءا في الادب أو العلم أو الفلسفة أو العمران، لقد استفاد اليونانيون مما وصلت اليه الحضارة المصرية و حضارة بلاد الرافدين و الهندية أيضا، و قطعا هم لم يبدأو من الصفر.

ففي الماضي كانت الفكرة السائدة هو أن الفلسفة معجزة يونانية صرفة، و أن اليونانيون لم يستلهموا شيئا من الشعوب الاخرى و بذلك  فبلاد اليونان حسب انصار هذه النظرية قد انفردت دون غيرها من بقاع الارض بظهور الفلاسفة على أرضها إلا أن الاكتشافات التاريخية اظهرت بطلان هذا الادعاء.

ففي العصور القديمة ازدهرت حضارات راقية كالحضارة المصرية و الحضارة السومرية و حضارة الفرس و الهنود، و من المؤكد أنه في تلك الحضارات قد ظهر اناس كرسوا جزءا كبيرا من حياتهم للبحث عن أجوبة لأسئلة متعلقة بالوجود و الكون و النفس البشرية وهي نفسها الاسئلة التي شغلت بال الفلاسفة اليونانين فيما بعد إلا أن فلاسفة اليونان هم الأكثر شهرة لأن الكثير من أثارهم دونت و ظلت محفوظة. اما فلاسفة تلك الحضارات الاخرى فقد اندثرت أعمالهم أو لم تحفظ اصلا.

لو تمعنت في الكثير من افكار الفلاسفة اليونانيين فستجد أمثلة لها في الحضارات القديمة الاخرى، فمثلا فكرة تناسخ الارواح أشار اليها افلاطون حيث ادعى أن النفس البشرية بعد موتها تعود لتتقمص جسم حيوان أو بشرا أخر و هي نفسها الفكرة السائدة في الديانة الهندوسية.

و في كتابه الجمهورية قسم افلاطون المجتمع لثلاث طبقات:

طبقة الفلاسفة و يحكمهم العقل، و طبقة المحاربين و تحكمهم العاطفة، و طبقة رجال الصناعة و التجار و تحكمهم الشهوة، و على كل طبقة حسب افلاطون أن ترضى بما هي عليه فلا يجوز لطبقة الجنود أن تتطلع الى ما في يد طبقة الفلاسفة، و هذه الطبقية شبيهة بتلك التي تنص عليها الديانة الهندوسية في الهند.

أما الحضارة المصرية فقد اخد اليونانيون عنها الكثير بل إن الكثير من فلاسفتهم إما عاشوا في مصر أو زاروها طلبا للعلم.

نفهم من كل هذا أن الفلسفة لم تظهر في اليونان وحدها، لكن ما الجديد الذي جاءت به الفلسفة اليونانية و جعلها مميزة عن غيرها؟

إن الذي ميز الفلاسفة اليونانيين هو استخدامهم للعقل و المنطق لفهم الحقائق دون الاعتماد على الاساطير، فمثلا في الفلسفة الهندية تختلط الحقائق مع الاساطير و التعاليم الدينية مما جعلها فلسفة مضطربة معقدة و خيالية و نفس الشيء نجده عند المصريين لكن اليونانيين حاولوا الابتعاد ما أمكن عن هذا الاسلوب في تفسير الامور، و اعتمدوا بدلا من ذلك على التفسير المنطقي العقلاني، و هذا ما يفسر علو مكانة الفلسفة اليونانية.

فمثلا يعد طاليس أحد أقدم الفلاسفة و هو صاحب نظرية طاليس المشهورة في الرياضيات عاش في القرن السادس قبل الميلاد، و في محاولته تحديد أصل الكون فقد اعتبر أن الماء هو أصل كل شيء، و أنه لا يوجد فرق بين الانسان و الكائنات الاخرى إلا فيما تحتويه من الماء، و أن الماء هو سائل فإذا تبخر أصبح غازا و إذا تجمد صار صلبا و هذه هي كل الاحوال التي تكون عليها المادة،  ثم  جاء فيلسوف اخر و هو هيراقليطس فقال إن النار هي أصل كل شيء، و كيفما كان الامر فمن المؤكد أن كل هذه الاجابات خاطئة من الناحية العلمية و لكن تكتسب قيمتها من أنها تشكل اولى محاولات فهم حقائق الاشياء بإتباع ادلة منطقية و دون الاعتماد على الاساطير. لقد كانت اولى الخطوات نحو التفسير العلمي.

مراحل تطور الفلسفة اليونانية

لقد مرت الفلسفة اليونانية بمراحل عدة من بدأ ظهورها في القرن السادس قبل الميلاد إلى مرحلة النضج مع فلاسفة كأفلاطون و ارسطو.

ففي بداياتها الاولى كانت الفلسفة تهتم بالكون و الظواهر الطبيعية لذلك سمي فلاسفة هذه المرحلة بالفلاسفة الطبيعيين، و قد اتفقوا على أن أصل الكون هو مادة ما توجد في الطبيعة لكنهم اختلفوا في تحديدها فذهب طاليس كما أشرنا قبل الى أن الماء أصل كل شيء، و زعم هيراقليطيس أنها النار و انكسيمينس أنها الهواء.

ثم جاء بعد  ذلك سقراط ليؤسس لمرحلة جديدة من الفلسفة اليونانية لأنه غير اهتمامها من الكون و الطبيعة إلى محاولة فهم الانسان نفسه، و لذلك يعتبر سقراط علامة فاصلة في الفلسفة اليونانية فنقول مثلا فلسفة ما قبل سقراط و ما بعده.

فبالنسبة لسقراط فإن النفس البشرية هي الاجدر بالبحث، و كل المعارف الاخرى و إن كانت مهمة إلا ان معرفة حقائق الانسان أهم و أعلى منها شأنا و كان شعاره هو أيها الانسان أعرف نفسك بنفسك، و لذلك يصف الكثيرون سقراط بأنه أنزل الفلسفة من السماء إلى الارض أي من الاهتمام بالكون إلى حصرها في قضايا الانسان.

جاءت بعد ذلك مرحلة تلميذه افلاطون

افلاطون هو صاحب نظرية المثل و التي تتلخص فكرتها فيما يلي: في عالمنا المحسوس نجد الجمال و العدل و غير ذلك، لكن كل هذه الأمور لا بد أن يشوبها نقص لأن العدل الكامل و الجمال المطلق لا يوجدان إلا في عالم المثل، و هو عالم أخر يوجد فوق هذا العالم المحسوس حيث الاشياء و الكائنات الحية تتمتع بالكمال المطلق.

ثم أتى ارسطو بعد ذلك و هو تلميذ افلاطون بنظريات عدة في السياسة حيث أكد أن وجود الدولة ضروري من أجل أن يعيش الناس حياة كريمة، و في المعرفة اعتبر أن وسيلة الانسان لاكتساب المعرفة هي الحواس و أن هذه المعرفة تتراكم في ذاكرته فتتشكل الخبرة، و على عكس الفلاسفة الذين اعتقدوا بتناسخ الارواح فإن النفس و الجسد حسب ارسطو وجهان لعملة واحدة، و هما يولدان معا و ينتهيان بالموت معا.

لقد اثرت الفلسفة اليونانية تأثيرا بالغا في الفكر الغربي فيما بعد، إذ شجعت على استخدام العقل و البراهين المنطقية في فهم الامور، كما أن الكثير من الافكار السياسية قد استلهمت من كتابات سقراط و افلاطون و ارسطو بل شمل تأثير الفلسفة اليونانية التعليم أيضا، فقد اشتهر سقراط بأنه كان يلقن للناس افكاره عن طريق طرح الاسئلة بحيث يحاول أن يعرف أولا وجهة نظر محاوره في قضية من القضايا ثم يبدأ في تصويب خطأه، هذا المنهج السقراطي مازال يستخدم في التعليم الى اليوم و يعطي نتائج أفضل من التلقين المباشر.

المصادر

يوسف كرم. تاريخ الفلسفة اليونانية. لجنة التاليف و الترجمة و النشر

زكي نجيب محمود و احمد امين. قصة الفلسفة اليونانية. مؤسسة هنداوي. 2017

اترك تعليقاً