You are currently viewing من الأسبق التوحيد أم الوثنية؟

من الأسبق التوحيد أم الوثنية؟

يصف لنا الكثير من علماء الأديان الانسان في عصور ما قبل التاريخ و هو يعبد مظاهر الطبيعة التي يجدها أمامه، ثم لما ظهرت الحضارات الأولى و ارتقى في تفكيره انتقل إلى عبادة الاصنام، ثم في الأخير توصل إلى عبادة إله واحد و ذلك في وقت متأخر قياسا لزمن ظهور الانسان، أي أن الشطر الأكبر من حياة الانسان قد قضاه في الوثنية و التي هي الأصل على هذا الاعتبار أما التوحيد ففكرة جديدة مستحدثة، فهل حقا عبد أجدادنا الاوائل الكواكب و الأشجار و الماء و النار فقط كما يدعي هؤلاء العلماء ألم يكن لديهم أي تصور عن الإله الخالق من الأسبق يا ترى التوحيد أم الوثنية؟

الدين فطرة بشرية

إن الدين ملازم للإنسان بل يستحيل أن نتصور الانسان دون أن تتبادر إلى ذهننا فكرة الدين، فهو غريزة كغريزة الطعام و الشراب و حب البقاء، بل قد تكون حاجة الإنسان للتدين أقوى و أشد، لذلك فكل الشعوب قديمة كانت أم حديثة بدائية أم متطورة عرفت الدين فهو فطرة فطر الله الناس عليها.

يذكر معجم لاروس للقرن العشرين:

إن الغريزة الدينية مشتركة بين كل الأجناس البشرية حتى أشدها همجية و أقربها إلى الحياة الحيوانية، إن الاهتمام بالمعنى الإلهي و بما فوق الطبيعة هو إحدى النزعات العالمية الخالدة للإنسانية.

يقول المؤرخ الامريكي ويل ديورانت Will Duranr :

لا يزال الاعتقاد القديم بأن الدين ظاهرة تعم البشر جميعا اعتقادا سليما

فالدين قديم و مازال و سيظل حاضرا مادام الانسان، و لقد ادعى فرويد مثلا أن الدين من صنع البشر و أن الانسان قد بدأ حياته بالخرافة لتفسير مظاهر الطبيعة ثم اخترع الدين، ثم جاء العلم في نهاية المطاف ليزيل الدين، و لكن الواقع يثبت خطأ هذا الادعاء، فالتدين لم يختفي رغم كل التقدم العلمي الذي أحرزه الانسان.

فالدين لم يفارق البشرية طوال تاريخها، و هذا ما دفع بالمؤرخ هنري برجسون للقول:

لقد وجدت و توجد جماعات انسانية من غير علوم و فنون و فلسفات و لكنه لم توجد قط جماعة بلا دين.

و الحقيقة المؤكدة أن التاريخ لا يذكر على الاطلاق أناس عاشوا دون أن يمارسوا شكلا من أشكال التدين.

فإذا كان التدين فطرة فطر الناس عليها فأي دين دان به الانسان أولا؟

نظرة الاديان السماوية لأصل الدين

في الأديان السماوية اليهودية المسيحية و الاسلام فإن الانسان قد نشأ على التوحيد، فأبو البشر ادم عليه السلام كان نبيا و ظل نسله يعبدون الله وحده ثم مع مرور الوقت و تعاقب الأجيال تلوثت عقيدة التوحيد، و انتشرت الوثنية بين الناس بسبب تقديسهم للصالحين و رفعهم إلى مرتبة الالوهية، لذلك ارسل الله تعالى الرسل من أجل تذكير البشر بالتوحيد و إعادتهم إلى الطريق المستقيم.

هناك بعض علماء تاريخ الاديان من يؤكد على هذه الحقيقة و يسمونها نظرية اصالة التوحيد.

نظرية تطور الاديان

لكن للكثير من علماء تاريخ الاديان قصة مخالفة تماما عن اصل الدين الاول للبشر، و معظمهم يتبنى نظرية تطور الاديان فما فحوى هذه النظرية؟

حسب نظرية تطور الأديان فإن الانسان البدائي وجد نفسه ضعيفا أمام مظاهر الكون فأفزعته الصواعق و البراكين و الزلازل، كما حيرته الشمس بشروقها و غروبها و الفصول بتعاقبها، و حيره أمر النوم حيث يتحرر من قيود الزمان و المكان فانبثقت عنده العقيدة الدينية، و عبد تلك الظواهر التي كان يخافها و لا يفهم كنهها، هكذا إذن تصور لنا هذه النظرية الانسان و قد نشأ بلا عقيدة فعبد الطبيعة اولا ثم لما ارتقى في مستوى معيشته و اكتشف الزراعة و أقام الحضارات حصل تطور في معرفته فتطورت تبعا لذلك عقيدته، و انتقل من عبادة الطبيعة إلى عبادة الهة متعددة كل إله مسؤول عن ظاهرة معينة أو حدث في الكون، ثم بعد مدة طويلة بدأت ملامح التوحيد تتشكل في حضارات عدة حتى توصل إلى عبادة إله واحد، و مزال التطور في الدين قائما في اعتقادهم.

إن الانسان حسب نظرية تطور الاديان نشأ وثنيا بالفطرة أما التوحيد فلم يظهر إلا في مرحلة متقدمة من عمر البشرية، لقد استمدت هذه النظرية دعائمها من نظرية التطور لتشارلز داروين التي اعتقد أنصارها أنها تصلح لتفسير كل شيء، و قد قاسوا تطور الانسان في العلم و الصناعة بتطوره في الدين كذلك.

فكما أن الانسان قد تطور من جنس القردة حسب نظرية التطور فإن عقله قد خضع للتطور و تبعا لذلك ارتقى في عبادته.

و قد انساق وراء هذه النظرية الكثير من المفكرين المسلمين كعباس محمود العقاد الذي يقول بأن التطور في الديانات أمر محقق لا شك فيه، و تاريخ الديانات هو تاريخ العقل في الترقي من الوثنية الى التوحيد، و حسب العقاد فإن ارقى ديانة توصل إليها الانسان كانت عبادة الشمس و مباشرة بعدها عبد الله.

فأي الفريقين على حق ا الذين يعتقدون بأصالة التوحيد أم من يؤمنون بتطور الأديان؟ من الأسبق الوثنية أم التوحيد؟

كيفية البحث عن دين الانسان الاول

من أجل تحديد الدين الأول الذي كان عليه الانسان فقد اعتمد الباحثون على مصدرين اثنين أولهما  دراسة الاثار التي خلفتها الحضارات القديمة لمعرفة المعتقدات التي كانت سائدة أن ذاك، و ثانيا البحث في المعتقدات الدينية لدى الشعوب البدائية التي لا تزال تعيش بيننا اليوم في استراليا و الامازون و غابات افريقيا على أساس أنها تشبه معتقدات الانسان الاول، فما الذي أسفرت عنه أبحاثهم؟

البحث في معتقدات الشعوب البدائية

يقصد بالشعوب البدائية تلك الشعوب التي لا تعرف القراءة و لا الكتابة، تعيش على القنص و التقاط الثمار، لا تمارس أي نشاط زراعي أو رعوي، مساكنها بسيطة، لا تستخدم سوى أدوات بدائية الصنع و نظامها الاجتماعي في غاية البساطة، و تستوطن أماكن معزولة يتعذر الوصول اليها و الذي يمثل المجتمعات البدائية اليوم هم قبائل الابورجيين في استراليا، الاقزام في افريقيا، الهنود الامريكيون في رأس هورن بأقصى جنوب التشيلي وفي كاليفورنيا.

الابورجيون

يقدم لنا سكان استراليا الاصليين المعروفين بالابورجيين نموذجا لحياة انسان ما قبل التاريخ، إذ يعتقد العلماء أن نمط حياتهم قد ظل كما هو منذ وصولهم لاستراليا قبل 10000 سنة من الان، ثم إنهم بحكم موقع استراليا المعزول قد عاشوا في عزلة تامة عن باقي شعوب العالم لذلك فهم يمثلون نمط حياة الانسان البدائي.

و حسب نظرية تطور الأديان ينبغي أن يعبد الابورجييون مظاهر الطبيعة لأنها تمثل المرحلة الاولى للدين، لكن تفاجأ علماء تاريخ الاديان الذين درسوا معتقدات هذه الشعوب منذ القرن التاسع عشر أن الابورجيين يعبدون الها واحدا يعظمونه غاية التعظيم و يطلقون عليه أسماء مختلفة حسب تنوع لغاتهم، و يصفونه بأنه هو الذي خلق كل ما في الارض و السماء، و هو الذي فرض عليهم مجموعة من القواعد المنظمة لحياتهم.

يقول كتاب تاريخ اديان العالم ص 181:

في معظم قبائل جنوب شرق استراليا فان كل الشعائر الدينية تقدم لإله واحد، ازلي، و لم يولد، لا مثيل له و متعال و يسمى بين قبائل استراليا بعدة اسماء كبايامي بينجيل نورنديري و بعض هذه القبائل تعتقد أن هذا الاله لا يحاسب الناس على افعالهم، و قبائل اخرى تعتقد أنه يراقبهم على الدوام، و سيحاسبهم، باعتبار كل هذه الادلة فإن كل قبائل استراليا تحمل اعتقادا بوجود إله عظيم.

و قد ظهر لعلماء تاريخ الاديان أنه كلما كانت القبائل أكثر بدائية فهي تكون أقرب إلى التوحيد، و كلما كانت أكثر تقدما إلا و اختلط فيها التوحيد بالوثنية.

شعب الياغان بجنوب الشيلي

و من استراليا إلى اقصى جنوب التشيلي في منطقة رأس هورن، هناك يقطن شعب يدعى الياغان و الذي يظهر أنهم استوطنوا المكان قبل 10000 سنة من الان، و موطنهم معزول نظرا لصعوبة الوصول إليه، و لم يحدث بينهم احتكاك كبير بالاسبان الذين استعمروا التشيلي حيث أنهم لا يدينون بالمسيحية.

عندما زار شارلز داروين صاحب نظرية التطور رأس هورن ضمن رحلته الشهيرة إلى أمريكا الجنوبية وصف الياغان بأنهم قبائل موغلة في الهمجية، لا يوجد لديهم تصور عن الالهة فضلا عن معرفة إله واحد، و غاية ما يدركونه هو وجود أرواح تحرك مظاهر الكون، و إدراكهم لا يتجاوز إدراك الكلب، و هم حسب داروين مازالوا في طور الديانة الاحيائية أي عبادة مظاهر الطبيعة. فهم يمثلون دين الانسان في مراحله الاولى.

لكن بعد سنوات عدة و بعد التعمق في معرفة لغة شعب الياغان و ثقافتهم تجلى خطأ دراوين الفظيع، فالياغان يعبدون الها واحدا يصفونه بالأزلي أي لا أحد قبله، من صفاته أنه في السماء خالد غير متجسد، ليس له زوجة و لا أولاد و لا أباء، هو خالق الناس و الأرواح تعود إليه حين مماتها، هذا إلى جانب إيمانهم بالسحر و الشعوذة.

و قد ذكرت الموسوعة البريطانية:

أمن الياغان بإله بيده الخير واهب الحياة و يعاقب الظالمين

الأقزام في افريقيا

يمثل الأقزام مجموعات بشرية تعيش في الغابة المطيرة لإفريقيا، و تعتاش على القنص الحيوانات و التقاط الثمار، قام مؤرخ الاديان وليام شميت Wilhelm Schmidt2  بدراسة معتقدات الاقزام لأنهم يعبرون عن نمط حياة الانسان البدائي، توجد ثلاث مجموعات اثنية للأقزام و قد تم دراسة كل واحدة على حدة، فكانت النتيجة واحدة و هي انهم يجمعون على وجود إله واحد هو الذي خلق الارض و السماء و الغابة و الحيوانات، ثم خلق الزوجين الاوليين هذا إلى جانب ايمانهم بأرواح الموتى و قدرتها على الحاق الضرر أو جلب النفع للبشر.

قبائل امريكا الشمالية

تعتبر قبيلة اليوكي من أقدم القبائل الهندية في امريكا الشمالية، و أكثرها بدائية، و تستوطن منطقة معزولة في كاليفورنيا، و الذين درسوا معتقدات هذه القبيلة وجدوا ملامح التوحيد فيها ظاهرة أيضا. فحسب الانتروبولوجي الامريكي جاي ميلر 3يؤمن اليوكي بوجود خالق خلق كل شيء و يوجد في السماء، يسمى في لغتهم تيكومال، كما يؤمنون بأن كل الارواح تعود إلى الاله الخالق بعد مماتها، كذلك تروي قصصهم أن تيكومال لما خلق الارض و عمرها بالبشر حدث طوفان عارم بحيث أن القليل من قمم الجبال ظلت بارزة، و هذه القصة تشبه قصة الطوفان الذي حدث في زمن نوح عليه السلام.

لقد وجد أن الكثير من القبائل الهندية لأمريكا الشمالية التي تستوطن منطقة البحيرات الكبرى كانت معتقداتهم تدور حول عبادة اله واحد، و هذا لا ينفي وجود قبائل كانت وثنية، لكن الملاحظ أن القبائل الاكثر بدائية كانت أقرب للتوحيد، و هذا يسير عكس ما تفترضه نظرية تطور الاديان.

قبائل اندمان

و في جزر نائية في المحيط الهندي تدعى جزر اندمان و هي تابعة حاليا للهند كانت تعيش قبائل في عزلة تامة عن باقي الشعوب المجاورة، يعتمدون في معيشتهم على القنص و الالتقاط كشأن القبائل البدائية، و يطلق عليهم اسم النغريتو نظرا لبشرتهم السوداء.

قد قام عالم يدعى ادوارد هان سمان  Edward Hans Man4 بالعيش بين أفراد أحد هذه القبائل لمدة 11 سنة بغية التعرف على معتقداتهم، فاكتشف أنهم يعبدون الها اسمى ليس في وسع البشر رؤيته، هو الأول و الاخر، خلق كل شيء لكنه لم يخلق الشر، خلق الزوجين الأولين، و هو مطلع على أفعال البشر، و قد عاقب الاقوام الأولى بطوفان عظيم جراء تماديهم في الذنوب و المعاصي.

معتقدات قبائل افريقيا

عند الكثير من القبائل الاقريقية أخرى التي كان ينظر اليها على كونها وثنية صرفة، أو أنها لا زالت في مرحلة عبادة الطبيعة التي تمثل أولى مراحل تطور الاديان، فقد أسفرت دراسة معتقدات هذه الشعوب عن نتائج مخالفة تماما لما كان مفترضا، فقبيلة الماساي التي هي أحد أكبر القبائل في افريقيا يستوطنون كينيا و تنزانيا تحمل معتقداتهم الكثير من أثار التوحيد، جاء في كتاب روبرت و توبغو 5مايلي:

ليس لدين قبائل الماساي اسم و لكنه توحيدي و شخصي، العلاقة بين الماساي و إلههم تتم بواسطة صلوات تؤدى فرديا أو بشكل جماعي، و هو يخلصون له العبادة و يتوسلون إليه وحده، أما العلاج الذي يتم فيه الاستعانة بالسحر و الشعوذة فهو مستقل عن الدين، عموما يصلي الناس للإله عند حدوث الجفاف و الأوبئة و المشاكل الشخصية و العائلية.

ما النتيجة البحث في معتقدات الشعوب البدائية؟

لقد خلص البحث في معتقدات الشعوب البدائية إلى كونها جميعا تؤمن بوجود إله واحد اسمى ما يعني أن التوحيد متجذر بقوة منذ فجر التاريخ، و قبل أن تنفصل الجماعات البشرية، و هم يطلقون عليه اسماء كثيرة كلها تدل على تعظيمهم و تقديسهم له، فهو الخالق الذي في السماء، الازلي، الحافظ، العلي، القدير و غيرها، كما يصفونه بأنه مطلع على أعمال البشر و محاسبهم عليها.

و يؤكد وليام شميت أن كل الشعوب البدائية بلا استثناء تؤمن باليوم الاخر، حيث سيتحدد مصير الانسان حسب أعماله، فالصالحين سيدخلون الجنة أما المسيئين فسيعاقبون في النار.

فلو كانت فكرة أن الوثنية هي الأصل و أن التوحيد لم يظهر إلا في مراحل متقدمة كنتيجة لتطور فكر الانسان فكيف يمكن أن نفسر وجود الايمان بإله واحد عند مجتمعات بدائية تعيش كما كان يعيش البشر في أول الزمان، و لم يحدث بينهم أي اتصال مع المجتمعات المتقدمة؟

يقول الانتروبولوجي ايبرارد6:

لم نتمكن في أي مكان في العالم من اكتشاف أدنى اثر لحركة من الوثنية إلى عبادة إله واحد بل على العكس من ذلك وجد بين جميع الشعوب الوثنية ميلا للانحدار من معرفة مسبقة بوجود الله و عبادته

إذا كان هذا يخص معتقدات الشعوب البدائية فماذا عن الحضارات القديمة؟

المصادر

.1 David S. Noss and Blake R. Grangard. A history of the world religions 13th Edition.

2وليام شميت عالم لغات و مؤرخ اديان الماني ولد سنة 1868 و توفي سنة 1954

Jay . Miller. High Minded High gods in north america Dept of anthropology. University of Washington3

Edward Horace Man. The Aborginal Inhabitants of the Andaman islands4.

5Robert Wambugu Rukwaro. Sylvester J. M Maina . Transformation of massai art and architecture page 10

6جوهانس اوجوسانت ابرارد عالم اديان و مؤرخ عاش في زمن الامبراطورية الالمانية ما بين 1818-1888

اترك تعليقاً