على ضفة نهر أبي رقراق حيث تقع العاصمة الرباط تقف قلعة شالة شامخة تتحدى الزمن، و أنت تتجول في ما تبقى من بنايتها، لا يمكن إلا أن تتملكك الرهبة حينما تعلم انك تقف في مكان حيث كان الفينيقيون الذين عاشوا قبل أكثر من 2300 سنة من الآن يتاجرون ببضاعتهم، و حيث كان كبار القوم من الرومان الذين حكموا أجزاء من المغرب يعيشون في رغد و رخاء، و حيث ترقد جثامين الكثير من الملوك المسلمين ، حضارات متعددة تعاقبات على هذه المدينة و تركت كل منها بصمتها لتنتج لنا في النهاية هذا البناء العجيب، قلعة شالة التي هي أحد أقدم البنايات الأثرية بالمغرب.
من بنى شالة؟
لنعد بالزمن إلى القرن 3 قبل الميلاد، هناك وصل الفينيقيون إلى ضفاف نهر أبي رقراق من أجل التجارة. الفينيقيون أمة كانت تسكن في ما يعرف بلبنان حاليا، و امتهنوا التجارة حتى حازوا على لقب تجار العالم القديم. أقام هؤلاء الفينيقيين مستوطنة صغيرة لتسهيل عملية التبادل التجاري مع سكان الأصليين الامازيغ، و اختاروا الموقع الذي عليه شالة حاليا لقربه من النهر .معظم أثار الفينيقيين اندثرت لأن الذين جعلوا من شالة مدينة عامرة و مزدهرة هم الذين جاؤوا من بعدهم، و نعني بهم الرومان.
الفترة الرومانية في شالة
عندما وصل الرومان إلى ضفاف نهر أبي رقراق في القرن الأول للميلاد، أقاموا مستوطنتهم قرب ما تبقى من أنقاض المدينة الفينيقية، و سموها مستوطنة سالا Sala Colonia. يمكن للزائر أن يرى الكثير من الآثار الرومانية التي صمدت في وجه الزمن، كالمعبد الرسمي، الأعمدة، قوس النصر الذي لم يتبقى منه إلا الأساسات، الساحة العمومية، الحمامات، و كلها عناصر لا تكاد تخلو منها مدينة رومانية.
يمكنك و أنت تتجول في الآثار المتبقية من الحقبة الرومانية أن تتخيل الساحة العمومية آنذاك و هي مكتظة بالناس. منهم من يناقش أمور البلاد، و منهم من يتاجر أو ينحث التماثيل، فيما آخرون يقضون أوقات راحتهم بعد الظهر في الاستحمام داخل الحمامات الرومانية المشهورة. إنما هل كانت المدينة الرومانية تقتصر على شالة التي نعرفها اليوم؟
غالب الظن أن شالة الرومانية كانت كبيرة و تمتد خارج أسوارها الحالية بكثير، إذ يعتقد أن بيوت عامة الناس كانت تمتد من خارج قلعة شالة إلى شاطئ الرباط. فيما كانت المنازل داخل القلعة مخصصة لكبار القوم، مما يدل على أننا أمام مدينة عامرة نابضة بالحياة في القرن الثالث ميلادي.
من الرومان إلى الملوك الامازيغ
في القرن السادس ميلادي بدأت الإمبراطورية الرومانية تتصدع، و تفقد السيطرة على الكثير من أجزائها، و من بينها مستوطنة سالا، فانتقلت هذه الأخيرة إلى أحضان الملوك الأمازيغ و الامازيغ هم سكان الاصليون لشمال افريقيا لا يعرف المؤرخون على وجه التحديد من أين جاؤوا في الأصل و مازالوا يشكلون نسبة مهمة من سكان المغرب و الجزائر إلى حدود القرن السابع ميلادي. هنا ستستقبل شالة حضارة أخرى ستترك بصمتها واضحة للعيان.
شالة في الفترة الإسلامية
في أواخر القرن السابع ميلادي. قدم المسلمون العرب إلى المغرب بقيادة عقبة بن نافع. فكان هذا الأخير أول مسلم يحكم مستوطنة سالا. اتخذ المسلمون من الأراضي الواقعة حول شالة رباطا للمجاهدين .و معنى الرباط هو أن يلازم المحارب الثغر بهدف تأمينه و حراسته من الأعداء. و قد ذكر الجغرافي الشهير ابن حوقل شالة في القرن العاشر ميلادي.
و بشالة رباط يرابط فيه المسلمون. و عليه المدينة الأزلية المعروفة بشالة القديمة. و قد خربت و الناس يسكنون برباطات تحف بها. و ربما اجتمع في هذا المكان من المرابطين مائة ألف إنسان يزيدون في وقت و ينقصون لوقت.
بعد ذلك أصبحت مستوطنة سالا مهجورة. خاصة بعد بناء مدينة شمال ضفة أبي رقراق و هي المعروفة بسلا حاليا. بينما أصبحت مستوطنة سالا الرومانية تسمى شالة. و لا أحد يعرف بالضبط سبب تغيير هذا الاسم.
تم كتب لشالة أن تنبعث من جديد في عهد المرينيين. الذين حكموا المغرب من القرن الثالث عشر إلى القرن الخامس عشر.
مدينة للأموات في العهد المريني.
لقد أراد أحد السلاطين المرينين و هو أبو يوسف يعقوب أن يعيد لشالة بريقها. فأسس فيها مسجدا يحمل اسمه. و زاوية. ثم قرر سلطان أخر و هو أبي الحسن أن يجعل منها مقبرة تستقبل جاثمين ملوك و أمراء هذه الدولة. فدفن بها هو و أولاده و زوجته شمس الضحى. و غير بعيد عن المسجد المذكور يوجد حوض مائي يعرف بحوض النون. نسبة إلى وجود أسماك النون و هي من تعابين البحر تعيش فيه. لقد نسجت حول هذا الحوض الكثير من الأساطير. اذ يزعم البعض على أن تلك الأسماك هي جنيات في الأصل. و لها القدرة على تلبية حاجات الناس. فيقوم النساء خاصة برمي النقود و البيض في ذلك الحوض. و الاستحمام بمائه ظنا منهم أن ذلك سيحقق أمانيهم بالزواج و الإنجاب.
هذا الحوض أعد في الأصل من أجل الوضوء. أما اسماك النون التي تسبح فيه فقد تسللت إليه من نهر أبي رقراق المجاور .حيث تعيش بكثرة. و كل تلك القطع النقدية التي ترمى. تحقق في الواقع أماني العمال القائمون على المكان. و الذين يجمعونها و يتقاسمونها فيما بينهم.
المصادر
عبير فهد شدود . دراسة و تحقيق مخطوطة الدرة اليتيمة في وصف مدينة شالة الحديثة و القديمة لابن علي الدكالي . منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب دمشق . 2012