في أرض خلاء بشبه الجزيرة العربية حيث لا مياه و لا نباتات و لا أي مقومات للحياة، توجد الكعبة المشرفة، بيت الله الحرام، أول مكان وضع للعبادة و أشرف بقعة على وجه الأرض، هي مركز التوحيد و مقصد الحجاج المسلمين، يأتون إليها من كل فج عميق كل عام ليؤذوا فريضة الحج، تعددت أسمائها لسمو مكانتها فهي البيت و البيت الحرام و المحرم و البيت العتيق، منذ الآلاف السنين و إلى اليوم تتحرك نفوس المسلمين شوقا لزيارتها، فما قصة بناء الكعبة المشرفة؟ و على يد من تم ذلك؟
من بنى الكعبة المشرفة؟
نسب الكثير من المؤرخين بناء الكعبة إلى الملائكة، و آخرون إلى ادم عليه السلام ، لكن يظهر حسب ما ورد في القران الكريم أن ابراهيم عليه السلام هو اول من بنى الكعبة المشرفة ، يقول الله تعالى
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) سورة البقرة
فهذا يدل على أن ابراهيم عليه السلام هو الذي رفع قواعد الكعبة بمساعدة ابنه اسماعيل عليه السلام ، كما يؤكد القران الكريم في أكثر من موضع أن المكان الذي بنيت فيه الكعبة المشرفة كان في الاصل أرضا قاحلة غير مأهولة قبل مجيء ابراهيم عليه السلام.
إذن بما أن إبراهيم عليه السلام هو الذي رفع قواعد الكعبة، فلنقف على ومضات من حياة خليل الرحمان و أبو الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين.
نشأة إبراهيم عليه السلام
ولد إبراهيم عليه السلام في العراق، و كان أبوه يدعى أزر يعمل نجارا يصنع التماثيل، و لم يسبق لإبراهيم عليه السلام أن عبد تلك التماثيل في يوم من الأيام، و لقد أشار القران الكريم في أكثر من أية إلى أن إبراهيم عليه السلام لم يكن أبدا من المشركين، حتى إذا كبر عليه السلام تسلل خفية إلى المعبد و حطم الأصنام كلها التي كان يعبدها قومه إلا كبيرها، فلما دخل رجال من قومه المعبد و وجدوا أصنامهم محطمة فسألوه: من فعل هذا بآلهتنا؟ فقال لهم: اسألوا هذا الصنم الكبير فهو الذي حطمهم، فأجابوه: مستحيل ذلك فهو مجرد جماد لا يفعل شيا، فأجابهم بعد أن أقام الحجة عليهم: فكيف تعبدون منحوتات من صنع أيديكم لا تنفع و لا تضر.
لقد أثارت دعوته لعبادة الله وحده غضب ملك يدعى النمرود، و هو أحد الجبابرة فأمر بإشعال نار عظيمة و إلقاء إبراهيم عليه السلام فيها، لكن الله تعالى أنجاه من النار بعد أن أمرها بأن تكون بردا و سلاما على إبراهيم.
زواج إبراهيم عليه السلام بهاجر
خرج إبراهيم عليه السلام بعد هذه الحادثة من العراق رفقة زوجته سارة، لينجو من بطش النمرود حتى وصل إلى فلسطين، التي كانت أن ذاك تحت حكم العماليق، و هم قوم كانوا يسكنون بلاد الشام و أنحاء من مصر، و كان لملوكهم عادة أنهم كلما رؤوا امرأة جميلة انتزعوها من زوجها بعد قتله أو نفيه، و لأن سارة كانت على درجة عالية من الجمال فقد ادعى إبراهيم عليه السلام بأنها أخته، حتى إذا دعاها الملك إلى قصره أعادها إليه سالمة معافاة، كمعجزة من معجزات إبراهيم عليه السلام، و حتى يعبر له الملك عن أسفه و اعتذاره فقد منحه الكثير من الهدايا من جملتها جارية تدعى هاجر.
و لأن سارة لم تكن قد رزقت بولد بعد، فقد طلبت من إبراهيم عليه السلام أن يتزوج بهاجر، و هكذا أنجبت هاجر إسماعيل عليه السلام، ثم أنجبت سارة بعدها إسحاق عليه السلام.
هجرة إبراهيم مع هاجر البدايات الأولى للكعبة
يزعم الكثير من المؤرخين أن السبب الذي دفع إبراهيم عليه السلام لكي يهاجر بزوجته هاجر، إلى بقعة صحراوية قاحلة في شبه الجزيرة العربية، كان الغيرة التي اشتعلت في قلب سارة، لكون هاجر قد أنجبت و هي لم تنجب بعد، لكن هذا الكلام ليس له دليل لا من الكتاب و لا من السنة، و الحاصل أن إبراهيم عليه السلام قد خرج بهاجر و ابنها إسماعيل امتثالا لأمر ألاهي.
خرج إبراهيم عليه السلام من فلسطين، رفقة زوجته هاجر و ابنهما إسماعيل الذي كان لا يزال رضيعا، صوب بلاد الحجاز التي هي الآن المملكة العربية السعودية، ثم تركهم في مكان قاحل لا حياة فيه و هو الذي سيكون موضع الكعبة، و أخبر إبراهيم عليه السلام هاجر بأن الله هو الذي أمره بهذا فاطمئن قلبها.
رجع إبراهيم عليه السلام لفلسطين، و ترك هاجر هي و ابنها في أرض قفار بكل ما تحمل الكلمة من معنى، و ليس معهم إلا القليل من الماء و شيء من الثمر، بيد أن كل ذلك سرعان ما نفذ، فلما أحست هاجر بأنها على وشك أن تهلك هي و ابنها من شدة الجوع و العطش، أخذت تسعى بين جبلين هما الصفا و المروة ذهابا و إيابا، لعلها تبصر قافلة فتمد لها يد العون، و في المرة السابعة و لما عادت لإسماعيل عليه السلام وجدته ينبش في الأرض، فإذا بينبوع ماء يتدفق بين رجليه، و هذا هو ماء زمزم، و انطلاقا من هذه الحادثة سن السعي بين الصفا و المروة.
نشأة مكة و ازدهارها
اعتادت إحدى القبائل العربية و تدعى جرهم على القيام برحلات تجارية عبر الصحراء، و كان مسارها يمر بمحاذاة المكان الذي توجد فيه هاجر و ابنها، و كانوا يسمونه بكة و تعني الأرض الميتة القاحلة، لكنهم في هذه المرة رؤوا شيئا عجيبا مغايرا لما ألفوه، فقد رؤوا الطيور و هي تحوم حول المكان، مما يوحي بوجود مياه، و فعلا وجدوا عين زمزم فطلبوا من هاجر بأن يستوطنوا المكان، فأذنت لهم و هكذا كبر إسماعيل عليه السلام وسط قبيلة جرهم العربية، و لذلك كان لسان إسماعيل عربيا، بينما أبوه إبراهيم عليه السلام فكان يتكلم الآرامية، و هي لغة مازالت متداولة في الشرق الأوسط، و شيئا فشيئا بدأ الناس يتكاثرون حول مكة بعدما أصبحت صالحة للاستقرار البشري.
بناء الكعبة المشرفة
عاد إبراهيم عليه السلام إلى مكة بعد أن أصبح عمر إسماعيل عليه السلام 30 عاما، عندها أمر الله تعالى إبراهيم ببناء الكعبة المشرفة بمساعدة ابنه إسماعيل عليه السلام، حتى إذا أتما بنائها أمره الله تعالى أن يؤذن في الناس بالحج، و بذلك كانت الكعبة أول بيت وضع للناس من أجل العبادة، يطوفون به و يصلون إليه و يعتكفون عنده، و بعد بناء الكعبة عاد إبراهيم عليه السلام إلى الشام، تاركا ابنه إسماعيل عليه السلام خليفته في دين التوحيد.
هكذا بدأت مكة تتطور تدريجيا بعدما لم تكن شيئا مذكورا قبل مجيء هاجر و ابنها إسماعيل إليها، و قدس العرب الكعبة باعتبارها بيت الله الحرام، حتى أصبحت كل الأراضي الممتدة حولها حراما، لا يجوز فيها الاعتداء على إنسان أو حيوان، و لم يكن العرب وحدهم من يقدس الكعبة، بل بجلها أيضا الفرس و الهنود.
كيف غزت الوثنية الكعبة المشرفة
مع مرور الزمن بدأ دين إبراهيم عليه السلام يضعف تأثيره في نفوس الناس، فشاع التساهل في أمور الدين، و نسى الناس كثيرا مما ذكروا به، حتى تشكلت أرضية خصبة لظهور الوثنية.
تولى أمور الكعبة في إحدى الفترات رجل يدعى عمر بن لحي الخزاعي، ذهب ذات مرة في زيارة إلى بلاد الشام، فرأى الناس يعكفون على أصنام لهم، فاستفسرهم عن أمرها، فأجابوه: هذه أصنام نستنصرها فتنصرنا و نستسقي بها فنسقى، فقال لهم: ألا تعطوني منها صنما فأسير به إلى بلاد العرب عند بيت الله، فأعطوه صنما يقال له هبل، فرجع ووضعه عند الكعبة، و هكذا بدأت الوثنية تشيع في مكة و الكعبة، و بدأ عصر تقديس الأصنام.
كان لكل قبيلة عربية صنما تقدسه، قد يكون على هيئة أدمي أو على هيئة حيوان أو نبات و غير ذلك، و وضع حول الكعبة نماذج لتلك الأصنام، فكانت كل قبيلة تحج إلى الكعبة تجد صنمها المبجل هناك، كانت مكة المستفيد الأكبر من ذلك، فقد تحولت إلى مركز تجاري كبير في الجزيرة العربية، و تدفقت إليها الأموال من كل حدب و صوب، كما كانت مركزا ثقافيا أيضا، ففيها كان يقام سوق عكاظ، حيث يتبارى العرب بعرض أشعارهم.
محاولة هدم الكعبة المشرفة
كان أبرهة الحبشي ملك اليمن يشاهد و الغيظ يملأ قلبه المكانة العظيمة التي بلغتها مكة بفضل وجود الكعبة فيها، و الأرباح الاقتصادية الهائلة التي تحققها، فقرر أن يشيد في صنعاء كنيسة عظيمة لينافس بها الكعبة، و أنفق على بنائها أموالا طائلة، و زينها بتحف جلبها من الإمبراطورية الرومانية، لكن كل جهوده ذهبت سدى عندما لم تستقطب هذه الكنيسة ما كان يتوقعه من الحجاج فضلا على أن تنافس الكعبة، فقرر أن يهدم الكعبة حتى تخلو الساحة لكنيسته، لكن الله تعالى حمى الكعبة بعدما أرسل على جيشه طيرا أبابيل، فأهلكته عن أخره، و كان ذلك في نفس العام الذي ولد فيه الرسول صلى الله عليه و سلم.
عودة الكعبة إلى أحضان التوحيد
بعد انتشار الإسلام اختفت كل مظاهر الشرك و الوثنية من الكعبة المشرفة، و أصبحت مطهرة للمؤمنين وحدهم، و الجدير بالذكر أن الكعبة قد أعيد بنائها مرات و مرات، فقد قامت قريش مثلا بإعادة بنائها في زمن الرسول عليه السلام، و في عهد عبد الله ابن الزبير تم هدم الكعبة و إعادة بنائها مجددا، و أخر تجديد للكعبة كان في عصر الإمبراطورية العثمانية، حيث أصاب ضعف شديد جدران الكعبة بسبب السيول الناتجة عن الأمطار الغزيرة، فأمر محمد علي باشا والي مصر أن ذاك بهدمها، و إعادة بنائها و تطلب ذلك نصف سنة.
و ستظل الكعبة المشرفة قبلة المسلمين، مطهرة للطائفيين و العاكفين و الساجدين، و تهفو إليها النفوس فلا يراها احد إلا أحبها و لا يفارقها إلا و هو أسف على فراقها.
المصادر
محمد الثقفي . الكعبة المشرفة . موقع الثقافي . 2008
عبد الله بن سعيد الحسني الزهراني . الكعبة المشرفة تاريخ و احكام . مكتبة الملك فهد الوطنية . 2012
