يوجد البلاستيك في كل مكان، فاستخداماته لا حصر لها، لقد أصبح عنصرا لا غنى عنه لدرجة لا يمكننا تصور حياتنا بدونه، و منذ أن توصل الإنسان إلى إنتاج البلاستيك بخصائصه العجيبة و هو في انتشار رهيب، بحيث أنه و في ظرف زمني قصير استطاع أن يحل محل الكثير من المواد الأولية التقليدية كالخشب، الجلد، الفولاذ و لأن العلماء قد دأبوا على تسمية العصور التاريخية حسب المادة التي صنع منها الإنسان أدواته، كالعصر الحجري و العصر النحاسي و العصر الحديدي، فهناك من يسمي عصرنا الحالي بالعصر البلاستيكي، لكن و في مقابل المزايا العديدة للبلاستيك، توجد مساوئ لا يمكن غض الطرف عنها، فهو أكثر المواد تلويثا للبحار و المحيطات، يهدد كائنات بحرية كثيرة بخطر الانقراض، كما تسبب في مشاكل صحية خطيرة للإنسان، هذه هي ورطة البلاستيك، قصة المادة التي لطالما جذبت الإنسان بخصائصها المتميزة و لكن تلك الخصائص هي نفسها التي تهدد بيئته و صحته.
نبذة موجزة عن تاريخ البلاستيك
لا يوجد البلاستيك في الطبيعة و إنما يتم إنتاجه بواسطة البترول، بعد أن يخضع للكثير من عمليات التركيب و المعالجة، و بالتالي فالبلاستيك مادة بشرية الصنع. هيأت ظروف الحرب العالمية الثانية فرصة ذهبية لازدهار البلاستيك، فلقد صنعت منه الكثير من المعدات العسكرية كالدروع الواقية، المظلات و عوض زجاج الطائرات، و بذلك ظهر للناس مدى فعاليته و في الخمسينات بدأ البلاستيك يغزو المنازل في أوروبا و أمريكا الشمالية، تؤيده دعاية إعلامية كبيرة، تظهر الصحون البلاستيكية و هي لا تنكسر و إن سقطت أرضا، و الكراسي البلاستيكية خفيفة و لا تأكلها الأرضة، لقد نجح البشر في صناعة مادة يمكن استخدامها في شتى المجالات، لا تحتاج في إنتاجها إلى تكلفة كبيرة، و يمكن تشكليها بسهولة، و بهذه الخصائص المتميزة استطاع البلاستيك أن يزيح المواد التقليدية من المضمار، فحل محل الفولاذ في صناعة السيارات، و الورق في التغليف و الخشب في الأثاث و الخزف في الأواني.
ورطة البلاستيك
في البداية لم يكن الإنسان يعرف شيئا عن الجانب المظلم للبلاستيك، فقد كان يرى فيه تلك المادة السحرية التي سهلت حياته، لكن مساوئه العديدة لم تظهر إلا بعد مدة من الزمن، و أحد أخطر هذه المساوئ و أعظمها هو كون البلاستيك. لا يتحلل كيف ذلك؟
عندما ترمي ببقايا تفاحة في التربة فإنها سوف تتحلل بعد بضع أيام بحيث لا تجد لها أثرا، و يعود الفضل في ذلك إلى جيش من المحللين، مكون من الحشرات و البكتيريا و الفطريات، يقومون بتفكيك المادة العضوية و تحويلها إلى عناصر تمتصها النباتات، و بذلك فإن الطبيعة تنظف نفسها بنفسها، يحدث الأمر ذاته مع كل المواد العضوية، أي التي تتكون في الأساس من الكربون كالخشب، الجلد، الألياف و كلها مواد أولية يصنع منها الإنسان أدواته.
رغم أن البلاستيك كما ذكرنا سابقا يأتي من البترول، و هذا الأخير هو أيضا مادة عضوية، إلا أن البلاستيك لا نتحصل عليه إلا بعد أن يخضع البترول للكثير من عمليات المعالجة، و على هذا الأساس فالبلاستيك مادة لا توجد في الطبيعة، و بالتالي فالكائنات المحللة تنظر إليه باعتباره مادة غريبة فلا تقوم بتفكيكه.
إذن من يقوم بتحليل البلاستيك؟ هل سيبقى إلى الأبد؟ وحدها الأشعة الفوق بنفسجية هي التي تستطيع فعل ذلك، و لكنها تعمل بصورة بطيئة جدا، بحيث سوف يستغرق الأمر قرونا، لذلك من المتوقع أن قنينة الماء التي ألقيتها بلا مبالاة بعد الفراغ منها، سوف تظل موجودة بعد فناءك بقرون مديدة.
رحلة قمامة البلاستيك
الكثير من النفايات البلاستيكية تجرفها السيول صوب الأنهار، و من تم ينتهي بها المطاف في المحيطات، بعضها سيطفو على السطح و بعضها الأخر سيستقر في القاع حسب نوع البلاستيك، كانت هناك فكرة رائجة في السابق مفادها أن المحيطات شاسعة المساحة بحيث تستطيع استيعاب كميات هائلة من النفايات، و لكن هذا لا يصدق مع البلاستيك الغير قابل للتحلل، إذ و منذ بداية إنتاجه في الخمسينات و كميات كبيرة منه تتراكم في المحيطات، كل دقيقة يتم قذف ما يساوي شاحنة نفايات مليئة بالبلاستيك في البحار، و إذا ما استمر الأمر على هذا المنوال فإن العلماء يتوقعون أن تصبح كمية البلاستيك بحلول سنة 2050 أكبر من كمية الأسماك.
عندما تصبح النفايات البلاستيكية في عرض البحر، تقوم التيارات المائية بنقلها بعيدا لتتجمع في أماكن معينة من المحيط مشكلة ما يعرف بدوامة النفايات، أحصى العلماء تقريبا خمسة تجمعات هائلة، أكبرها هو تجمع شمال المحيط الهادي الذي تعادل مساحته مصر.
أين يمكن خطر المواد البلاستيكية؟
الكثير من الكائنات الحية تقوم بالتهام النفايات البلاستيكية عن طريق الخطأ، إذ تعتقد أنها فرائسها المفضلة، فتأكل السلاحف البحرية الأكياس البلاستيكية ظنا منها أنها قناديل البحر، عندما يأكل حيوان نفاية بلاستيكية فذلك سيؤدي إما إلى إحساسه بالشبع فيتوقف عن الأكل و يموت اثر ذلك، أو يؤدي إلى اختناقه.
بسبب ذلك أضحت الكثير من الكائنات البحرية مهددة بخطر الانقراض.
و ماذا عن الإنسان كيف يهدد وجود النفايات البلاستيكية سلامتنا الصحية؟
نتيجة لتأثير أشعة الشمس، المياه، الرياح و عمل الكائنات الحية تتجزأ النفايات البلاستيكية إلى أجزاء صغيرة جدا، تسمى الميكروبلاستيك تسبح في مياه المحيطات.
و بسبب كونها قطع متناهية في الصغر فإن الكثير من الكائنات الحية تأكلها عن غير قصد، و هكذا يستقر الميكروبلاستيك في أحشاء الأحياء البحرية، و عندما سيتناول الإنسان هذه الكائنات سوف يتناول أيضا جزءا من الميكروبلاستيك.
أتبتت دراسات أنجزت في أسواق السمك بكاليفورنيا و اندونيسيا وجود نسبة من الميكروبلاستيك في الأسماك، و في إحدى التجارب تم وضع اسماك في حوض به القليل من الميكروبلاستيك، و ذلك ليتحقق العلماء من إمكانية انتقال البلاستيك إلى أنسجة الحيوان، فظهر لهم بالفعل أن الميكروبلاستيك انتقل إلى الكبد.
مما لاشك فيه أن تناول أطعمة ملوثة بمواد بلاستكية فيه تهديد خطير على صحة الإنسان، و يعتقد أن ذلك من مسببات السرطان، و على كل مازالت الدراسات و الأبحاث قائمة على قدم وساق لكشف المخاطر الصحية المترتبة عن ذلك.
يجدر الإشارة إلى أن الميكروبلاستيك يمكن أن يأتي أيضا من بقايا مستحضرات التجميل، و معجون الأسنان، صابون الحلاقة، كلها منتجات تحتوي على الميكروبلاستيك.
لقد غدا البلاستيك إذن الملوث رقم واحد للبحار و المحيطات، و أحد أهم أسباب نفوق الكائنات البحرية فكيف السبيل للخروج من ورطة البلاستيك؟
تقييم الحلول
قد يقول قائل لماذا لا نتخلص من النفايات البلاستيكية بحرقها، هل حرق البلاستيك هو حل فعال؟
يؤدي حرق البلاستيك إلى إنتاج مجموعة من الغازات السامة التي تلوت الهواء و تهدد صحة النبات و الحيوان و الإنسان على حد سواء و بالنسبة للإنسان فإنها تتسبب في أمراض خطيرة بالجهاز التنفسي و قد تؤدي للسرطان.
من أهم الحلول التي تتبادر إلى ذهن الكثيرين عندما نتحدت عن النفايات البلاستيكية هو إعادة التدوير، و نقصد بإعادة التدوير إعادة استخدام النفايات لإنتاج منتجات أخرى، و بالنسبة للبلاستيك فإن العملية تبدأ بجمع النفايات البلاستيكية، ثم فرزها حسب النوع، ثم معالجتها لإنتاج البلاستيك الخام يمكن استخدامه مجددا، مما لاشك فيه أن لإعادة التدوير فوائد بيئية كثيرة، لأنها تجعلنا ننتج بلاستيك اقل، لكن تكمن المشكلة أن هذه العملية جد مكلفة، إذ تقتضي جمع النفايات من مختلف المطارح، ثم نقلها إلى محطات التدوير، كل ذلك لإنتاج بلاستيك خام، في الوقت الذي يمكن الحصول على البلاستيك الخام انطلاقا من البترول بتكلفة اقل بكثير، و بالتالي تصبح المنتجات البلاستيكية التي استخدم فيها بلاستيك معاد التدوير غير مربحة، و غالبا ما تقوم الحكومات في الدول المتقدمة بدعم هذه العملية. و بسبب ذلك فإن جزءا صغيرا من النفايات البلاستيكية في العالم يعاد تدويره.
حلول للخروج من ورطة البلاستيك مثال سنغافورة
تضرب دولة سنغافورة نموذجا ممتازا لكيفية الاستفادة من النفايات البلاستيكية، فهذه الدولة الصغيرة المساحة، ذات 5 مليون نسمة، تنتج قدرا كبيرا من النفايات البلاستيكية كل يوم، و لكنها استطاعت أن تبتكر طريقة فعالة لاستغلالها.
أولا يتم جمع النفايات البلاستيكية من مختلف حاويات القمامة بجميع أنحاء البلاد، ثم ترسل إلى المحرقة، إنها عبارة عن أفران عملاقة ذات حرارة جهنمية قد تصل ل 1000 درجة، تقذف النفايات البلاستيكية داخلها فتذوب بالكامل، و ينتج عن ذلك الغازات السامة و الرماد.
الحرارة الهائلة المنبعثة من هذه الأفران يتم استغلالها لإنتاج الطاقة الكهربائية، أما الغازات السامة فلا تطرح في الهواء مباشرة، بل تمر عبر مداخن تقوم بتصفيتها فتخرج نقية خالية من أي ملوثات، ثم ماذا عن الرماد؟
يتم نقل الرماد في شاحنات إلى مجموعة من الجزر الصغيرة، تحاول البلاد دمج بعضها، فيستخدم الرماد في هذا الغرض، و يتم وضعه بطريقة تحول دون اختلاطه بمياه البحر المجاورة، و بعد أن يصل للمستوى المطلوب تضاف أطنان من التربة حتى يستوي السطح مع سطح الجزر فتنمو فوقه النباتات بشكل طبيعي.
هذا الحل الذي تقدمه لنا سنغافورة من الممكن أن يعمم على نطاق واسع، و بذلك يمكننا أن نتخلص من البلاستيك في غضون ساعات بدل أن ننتظر قرونا عدة.
المصادر
سيلفيو غريكو. البلاستيك على المائدة. د. ناصر إسماعيل. دار الثقافة و السياحة أبو ظبي. 2020
The United Nations Environnent Programme (UNEP). Microplastics trouble in the Food Chain