لقد مكنت مبيدات الآفات الإنسان من السيطرة على الكثير من الآفات التي تدمر المحاصيل الزراعية، و يرجع لها الفضل في زيادة الإنتاج الزراعي و جعل الغذاء متوفرا لشريحة كبيرة من الناس، لكن في المقابل لهذه المبيدات جانب مظلم، فقد تسببت في مشاكل صحية كثيرة، تسمم، أمراض في الجهاز العصبي و التنفسي، السرطان، كما تسببت أيضا في تلويت المياه و التربة مما جعل المستهلك ينظر بعين القلق إلى هذه المنتجات الزراعية، لذلك كان لابد من البحث عن حلول بديلة، تعتبر المكافحة البيولوجية من الحلول المطروحة بقوة فما هي المكافحة البيولوجية و هل يمكن أن تحل يوما محل مبيدات الآفات؟
مبيدات الآفات ليست فعالة دوما
تصور معي أن مزارعا يستخدم مبيدا للقضاء على نوع من الحشرات يقوم بتدمير محصوله، النتيجة المتوقعة هي هلاك تلك الحشرات و بذلك تكون المعركة قد حسمت لصالح المزارع، لكن الامور لا تسير دائما على هذا النحو ففي أغلب الاحيان سوف تنجو نسبة قليلة من تلك الحشرات لأنها تحمل في تركيبتها مقاومة لذلك المبيد، فتتكاثر ثم تهدد المحصول من جديد و سيضطر المزارع بسبب ذلك إلى استخدام مبيدات أفات اشد فتكا و هكذا لن تنتهي المعركة كما كان يعتقد، و الخاسر الأكبر فيها هو البيئة التي تتلوث و الإنسان الذي تهدد هذه المبيدات صحته، هنا تأتي المكافحة البيولوجية لتحل هذه المعضلة.
نعني بالمكافحة البيولوجية استخدام كائن معين حيوان، حشرة، فطر كعدو طبيعي لمكافحة الآفة التي تدمر المحصول، فتكون النتيجة هو الحد من تأثير تلك الآفة أو القضاء عليها نهائيا و بذلك نحمي المحصول دون حاجة لاستخدام المبيدات.
المكافحة البيولوجية ليست سوى محاولة من الإنسان لتقليد ما يجري في الطبيعة، فلا يوجد جديد تحت الشمس، لقد اعتمد المزارعون على هذا النوع من المكافحة منذ القدم ففي الصين مثلا في القرن الرابع عشر عمد المزارعون إلى جلب النمل من أجل القضاء على آفة كانت تدمر محاصيل البرتقال، حتى كانوا يربطون بين شجرة و أخرى بقصب الخيزران لتسهيل تحرك النمل، فاستطاع النمل فعلا القضاء على تلك الآفة و إعادة إنتاج البرتقال إلى سابق عهده.
شيء مماثل فعله المزارعون في أنحاء من الجزيرة العربية حينما اكتشفوا أن النمل المفترس يمكنه مكافحة آفة تضرب نخيل البلح، فكانوا يجلبونه خصيصا لذلك الغرض.
تعتمد المكافحة البيولوجية على مبدأين أساسين و هما الافتراس و التنافس، فإما سيتم إدخال الكائن من أجل افتراس الكائن الضار الذي يتسبب في الآفة أو سينافسه على الغداء، و في كلتا الحالتين إما سيتم القضاء على الآفة نهائيا أو سيتم التقليل من أعداد مسبباتها لدرجة تصبح معها غير مهددة للمحصول.
أمثلة لنجاح المكافحة البيولوجية
أزمة الكاسافا
يعتبر الكاسافا غذاءا أساسيا لملايين الناس في إفريقيا جنوب الصحراء، و الجزء الصالح للأكل منه هو جذوره التي تبدو شبيهة بالبطاطا الحلوة، و هو غني بالمواد المغذية، سنة 1984 ضربت آفة نبات الكاسافا في إفريقيا و كان سببها حشرة تدعى البق الكاسافي دخلت إلى إفريقيا قادمة من أمريكا الجنوبية عن غير قصد فدمرت المحصول الأكثر استهلاكا في إفريقيا، لقد بلغت نسبة الدمار الذي طال المحصول في الكونغو الديمقراطية مثلا %80 و انتشرت الآفة في 30 دولة افريقية بحيث أصبحت تشكل تهديدا حقيقيا للأمن الغذائي هناك، عقد المزارعون في البداية آمالهم على مبيدات الآفات لكن جسم هذه الحشرة المغطى بمادة شمعية كان يحول دون قيام المبيد بمفعوله، بعد هذا الفشل أصبح غداء أزيد من 300 مليون نسمة على المحك، لذلك ولى العلماء وجههم شطر المكافحة البيولوجية لعلها تأتي بالحل، كانت الخطوة الأولى هي تحديد الموطن الأصلي للبق الكاسافي فتبين أن موطنه هو أمريكا الجنوبية و يكثر في جنوب البرازيل و الباراغواي لكنه هناك لم يكن يفسد المحاصيل نظرا لوجود عدو طبيعي له هو حشرة الدبور.
بعد القيام بتجارب على فعالية حشرة الدبور مع البق الكاسافي و بدعم من دول أوربية و أمريكا الشمالية أطلقت مجموعة من الدبابير في حقول الكاسافا بإفريقيا و كانت النتيجة مذهلة بحيث وضعت الدبابير حدا لهذه الآفة، و عادت حقول الكاسافا لتزدهر من جديد. و كسب الإنسان الرهان.
حشرة تنقد حمضيات كاليفورنيا
تعتبر الحمضيات أكثر الزراعات التي لاقت نجاحا في كاليفورنيا بفضل الظروف الطبيعية الملائمة، لقد كانت محاصيل البرتقال و الليمون و المنذرين تنقل و تباع في كل أنحاء الولايات المتحدة، لكن في بداية القرن العشرين ضربت آفة هذه المحاصيل حتى أوشكت أن تقضي عليها بالكامل، و السبب في ذلك هو حشرة صغيرة تدعى البق الدقيقي الاسترالي انتقلت بشكل عرضي من استراليا و نيوزلندا موطنها الأصلي إلى أمريكا، و وجدت في أشجار الحمضيات ضالتها، تستوطن هذه الحشرات كل أجزاء النبات فيمكن رؤيتها و هي تكسو الأوراق و السيقان و الأزهار، و هي تشبه الدقيق، تتكاثر بسرعة رهيبة و تتغذى على النسغ الذي هو في الأساس الغذاء الذي حضرته النبتة لنفسها، و بسبب ذلك تذبل الأوراق و ينخفض إنتاج الأشجار من الثمار.
استراليا التي منها جاء الداء كانت مصدر الدواء أيضا، فلقد وجد العلماء أن نوعا من الخنافس يعيش في استراليا يدعى خنفساء الفيداليا يستطيع القضاء على البق، أطلقت هذه الخنافس في بساتين الحمضيات في كاليفورنيا و كانت النتيجة مذهلة فقد استطاعت فعلا الفيداليا كف شر البق الاسترالي.
إخفاقات المكافحة البيولوجية
كما أن هناك حالات كثيرة حققت فيها المكافحة البيولوجية نجاحا باهرا هناك في المقابل إخفاقات ذريعة تكمن أسبابها فيما يلي:
– الكائن الذي تم إدخاله بهدف القضاء على الآفة تكاثر بأعداد قليلة بحيث لا يمكنه أن يشكل تهديدا للآفة فضلا عن القضاء عليها.
– قد يتكاثر الكائن الذي من المفترض أن يقضي على الآفة بأعداد هائلة لكنه لا يحدث أي تاتير على مسببات الآفة لأسباب مجهولة.
– قد يخطئ الكائن الذي تم إدخاله الوجهة فيحارب كائنا مفيد عوض الضار و بذلك تستمر الآفة.
هناك أمثلة كثيرة على فشل المكافحة البيولوجية:
ضفادع قصب السكر تغزو استراليا
في ثلاثينات القرن العشرين كانت خنافس قصب السكر تتسبب في خسائر فادحة لمحصول قصب السكر في كوينزلاند باستراليا، فكر المزارعون في اللجوء إلى المكافحة البيولوجية عوض استخدام مبيدات الآفات فقاموا بجلب ضفدع يسمى ضفدع القصب يعيش طبيعيا في غابات أمريكا الوسطى و الجنوبية و يتغذى بالأساس على الحشرات، اعتقد المزارعون أنه بمجرد جلب هذا الضفدع و إطلاقه في حقول قصب السكر سوف يلتهم الخنافس و يضع حدا لشرها المستطير، خصوصا أنه قد تم استخدامه سابقا للقضاء على الخنافس في حقول قصب السكر بهاواي فأبلى بلاءا حسنا، سنة 1953 تم جلب قرابة 100 ضفدع من أمريكا الوسطى ثم أطلقت كما كان مخطط له، لكن بدلا من أن تقوم هذه الضفادع بالمهمة المنتظرة منها انطلقت بحرية في برية استراليا الواسعة و أخذت تتكاثر بلا حدود و أصبحت آفة بحد ذاتها.
الأسباب التي جعلت هذا الضفدع لا يقضي على الآفة كما كان مفترضا كثيرة منها أن قصب السكر في استراليا يصل علوه غالبا ل 8 أمتار، و الخنافس تتغذى على قمة النبتة و لم تكن ضفادع القصب تستطيع الوصول إلى ذلك العلو، لذلك ظلت أعداد كثيرة من الخنافس في مأمن، أضف إلى ذلك أن حقول قصب السكر في استراليا كانت تزرع في مناطق أكثر جفافا من موطن هذه الضفادع الأصلي الذي هو الغابات المطيرة لأمريكا الوسطى و الجنوبية مما جعل الضفادع تغادر الحقول بحثا عن أماكن رطبة كالبحيرات و الأنهار.
لقد أصبحت أعداد هذه الضفادع اليوم خارج نطاق السيطرة، و السبب في ذلك أن قائمة طعامها متنوعة و واسعة و بالتالي فاحتمال موتها جوعا يكاد يكون مستحيلا، ثم إنها تتكاثر بشكل رهيب ففي حين أن الضفادع التي تعيش طبيعيا في استراليا تضع 1000 إلى 2000 بيضة في السنة فإن ضفدع القصب يضع ما بين 8000 إلى 30000 بيضة في السنة و بالتالي لا مجال للمقارنة بين النوعين من حيث العدد، و علاوة على كل ذلك لا يوجد أعداء طبيعيون لضفدع القصب.
بعد هذه المكافحة البيولوجية الفاشلة تحاول استراليا بلا جدوى التقليل من آفة ضفادع القصب التي تتسبب في أضرار بالغة بالبيئة، فهي تأكل الحشرات النافعة و تؤدي إلى موت الكثير من الكائنات الحية التي تحاول التهامها لأن ضفادع قصب السكر سامة.
الكيدزو النبتة التي تلتهم الجنوب الأمريكي
في أواخر القرن التاسع عشر تم جلب نبتة تدعى الكيدزو من اليابان إلى الولايات المتحدة كنبات للزينة، فالكيدزو هو معترشة أو متسلقة تعتمد على دعامة كشجرة أو جدار مثلا لتتسلق عليه و هي ذات منظر جميل خصوصا عندما تزهر، لذلك أحب الناس زرعتها في حدائقهم.
في فترة العشرينات و الثلاثينات من القرن العشرين تسببت سنوات من الجفاف و الزراعة الكثيفة في موجة تصحر بالجنوب الأمريكي، و أصبحت تربته الخصبة في مهب الريح، لذلك تم اقتراح زراعة نبتة الكيدزو لتكون طعاما للماشية و لتثبيت التربة، فكان ذلك هو بداية اجتياح نبات الكيدزو للجنوب الأمريكي، فرغم أنها قد قامت بمهمتها على أحسن وجه إلا أنها كانت تتميز بنموها السريع و بانتشارها الرهيب و هو شيء فطن له الناس في اليابان و الصين موطن هذه النبتة الأصلي فلقبوها بنبتة الميل في الدقيقة – الميل يساوي 1.6 كيلومتر تعبير مجازي – فقد تبت أن هذه النبتة تنمو 30 سنتمتر في اليوم الواحد، و تنمو على الأشجار، أعمدة الكهرباء، جدران المنازل المهجورة، و لا تترك شيئا في طريقها إلا تكتسحه حتى استحقت لقب النبتة التي تلتهم الجنوب، و بعد أن أوصت وزارة الفلاحة في الولايات المتحدة باستخدام هذه النبتة سنة 1930 لحماية التربة قامت الوزارة نفسها سنة 1950 بحذف هذه النبتة من قائمة النباتات الموصى بها لحماية البيئة ثم عادت مرة أخرى لتضعها في منزلة أدنى و ذلك عندما صنفتها كنبتة ضارة سنة 1970.
يكمن الضرر الذي تسببه نبتة الكيدزو في كونها تغطي الأشجار فتحول دون تلقي هذه الأخيرة ما يكفي من ضوء الشمس، و تموت على إثر ذلك، و يتضرر من ذلك كل الكائنات التي تعتمد على تلك الأشجار.
مازالت الولايات المتحدة تخوض اليوم حربا خاسرة مع نبتة الكيدزو، و لم تفلح مختلف الوسائل في الحد من انتشارها، فقد استخدمت مبيدات الآفات لكن هذه الأخيرة قتلت إلى جانب نبتة الكيدزو كائنات أخرى نافعة، استخدمت الآلات لإزالتها لكنها لا تلبث تنمو من جديد، فالنبتة تكسب كل سنة 480 كيلومتر مربع أي ما يعادل مساحة الرباط و الدار البيضاء مجتمعة، و وحدها شركات الطاقة تصرف 1.5 مليون دولار كل سنة لإصلاح الأعطاب الناتجة عن استعمار النبتة لأعمدة الطاقة.
حاليا يتم الاعتماد على مكافحة بيولوجية أخرى للحد من الكيدزو، و ذلك بجلب قطعان الماشية لترعى فيها، و قد ساعد ذلك على تطهير بعض الأماكن من نبتة الكيدزو.
هل ستحل المكافحة البيولوجية محل مبيدات الآفات؟
حتى تنجح المكافحة البيولوجية يجب أولا تحديد الكائن الذي سيلعب دور المحارب للقضاء على الآفة، دراسته بعناية، القيام بتجارب للتأكد من فعاليته، و بطبيعة الحال هذه المراحل تتطلب وقتا طويلا و لذلك فإن المكافحة البيولوجية عملية بطيئة إذا ما قورنت بالتأثير الفوري لمبيدات الآفات.
على هذا الأساس من المؤكد أن الإنسان سوف لن يستغني عن المبيدات الكيماوية على الأقل في المستقبل القريب، و في الآن ذاته تتوسع المكافحة البيولوجية باستمرار و تكسب كل يوم أنصار جدد، و هذا مما لا شك فيه سوف يؤدي إلى التخفيض من استعمال المبيدات لحد أدنى.
المصادر
Archal Sharma*, V.D. Diwevidi1 and others. Biological Control and its Important in Agriculture. International Journal of Biotechnology and Bioengineering Research. Volume 4, Number 3 (2013), pp. 175-180