قد تعتقد للوهلة الاولى أن الانسان هو الكائن الوحيد الذي اخترع المصباح لكن المفاجأة الكبرى تكمن في وجود كائنات حية تمتلك هي أيضا مصابيحها الطبيعية تستنير بها قبل مجيء الانسان نفسه بملايين السنين، و سواء طفت بالغابات ليلا أو غصت في أعماق المحيطات فسوف تصادف كائنات تتألق في الظلام في ظاهرة هي الأغرب من نوعها في الطبيعة. كيف تضيء هذه الكائنات؟ و ما الغاية من ذلك؟
لغز الكائنات المضيئة
تعرف ظاهرة انتاج الضوء من طرف الكائنات الحية بالتوهج الحيوي، و لقد عرفها الانسان منذ القدم لكن عجز عن ايجاد تفسير لها، فقد رأى بعض حشرات الغابة و هي تشع نورا في الظلام، و شاهد البحارة و هم في عرض المحيط المياه و هي تتلألأ بنور ساطع في الليل الحالك. لكن ظلت هذه الأضواء سرا غامضا.
و رغم غرابة هذه الظاهرة فقد استطاع الانسان احيانا الانتفاع منها، اذ يذكر أن الصينيين كانوا يجمعون نوعا من الخنافس ينتج نورا فيضعونها في قنديل فيشع و كأنه مصباح.كذلك فعل الكثير من عمال المناجم شيئا مماثلا ليبددوا ظلام المناجم الحالك.
أين توجد الكائنات المضيئة؟
قد تتساءل أين توجد هذه الكائنات التي يدور حولها موضوعنا؟ فربما لم يسبق لك أن شاهدت واحدا منها، و الحقيقة أن القليل من المخلوقات التي تعيش في اليابسة تنتج ضوءا، فإذا استثنينا أنواعا من الخنافس و البكتيريا و بعض أنواع الفطر فإن معظم الكائنات المضيئة تعيش في البحار و المحيطات.
كلما تعمقنا في المحيط أخد نور الشمس يختفي بالتدريج، و عندما نتجاوز عمق 1000 متر يحل ظلام حالك حتى لو اخرجت يدك لم تكد تراها، و في هذه الاعماق الفسيحة المظلمة تعيش الكائنات المضيئة و كأنها تعوض نور الشمس المفقود بنور تنتجه من تلقاء نفسها.
من المعروف أن انتاج الضوء يرافقه إنتاج الحرارة، لذلك إذا لمست مصباحا مضيئا فسوف تحترق و السبب في ذلك أن الطاقة المنتجة تحول بعضها لضوء و الباقي لحرارة، فهل يحدث الامر نفسه داخل أجسام هذه الكائنات الحية؟
كلا فالضوء الذي تنتجه هذه الكائنات يعرف بالضوء البارد، أي ضوء بلا حرارة، و لو كان الامر عكس ذلك لاحترقت أجسام هذه الكائنات، لقد استطاع الانسان أيضا انتاج الضوء البارد عبر مصابيح ليد التي تنتج الضوء مع القليل من الحرارة، لذلك يمكن أن نشبه الكائنات المضيئة بمصابيح ليد تتوهج بلون ازرق باهت في الغالب.
شواطئ و بحار تتلألأ ليلا
في بعض شواطئ المناطق المدارية تحدث أحيانا ظاهرة هي الأغرب من نوعها في الطبيعة، حيث يشع الشاطئ ليلا بضوء أزرق متوهج، و اذا ما سرت على هذا الشاطئ فسترى ما هو أعجب. فكل ما خطوت خطوة أضاءت الرمال تحت قدميك، و بمجرد ما تتحرك تنطفئ، و اذا أخذت شيئا من المياه بين يديك فستشع نورا. ما الذي يحصل في هذا الشاطئ؟ و ما مصدر هذه الاضواء؟
تلك الأضواء التي حيرت الناس منذ القدم مصدرها كائنات دقيقة، نوع من الطحالب يستطيع انتاج الضوء بهدف اخافة أعدائه، فإذا ما شعر بالتهديد أضاء بذلك الضوء الأزرق و لو كنت مفترسا فمن المؤكد أنك لن تجرؤ على التهام كائن مضيء. ترصد هذه الظاهرة المعروفة بالبحار المتلالاة خصوصا في الشواطئ المدارية، في المالديف، عمان، كاليفورنيا و استراليا و غيرها و قد عاين البحارة سابقا هذه الظاهرة في عرض المحيط إذ كلما تحرك قاربهم إلا و اضاءت جوانبه الملامسة للماء فبدا و كأنه يشتعل نارا، فسموها ظاهرة البحار المشتعلة. ذلك أن هذا النوع من الطحالب يضيء بمجرد ما يلمسه شيء.
تعيش النسبة الاكبر من الكائنات البحرية قرب سطح البحر حيث تتوفر الظروف الملائمة للعيش كالحرارة و ضوء الشمس، بيد أن هناك كائنات كثيرة اخرى لا يعرف الانسان عنها الكثير يخفيها البحر داخل أعماقه السحيقة، و إن كانت كائنات السطح تتمتع بضوء الشمس الذي هو ضروري في عملية الابصار فإن كائنات الاعماق محرومة من هذه النعمة، و السبب في ذلك أن الضوء يأخذ في التلاشي كلما تعمقنا حتى نصل إلى مستويات شديدة الظلمة هنا نجد ان معظم الكائنات تنتج ضوءا إما من تلقاء نفسها عن طريق تفاعل مادة اللوسيفرين التي توجد في جسم هذه الكائنات مع الاوكسجين أو تدخل في علاقة شراكة مع كائن مضيء.
ضوء سمكة الصياد
لنأخذ على سبيل المثال سمكة الصياد، إنها أحد أكثر الكائنات اثارة للرعب بسبب شكلها، يتدلى من رأسها خيط هو اشبه بصنارة صيد ينتهي بكرة تتوهج بضوء يرى بالعين المجردة، هذا الضوء ليس من صنع السمكة بل هو صادر من بكتيريا تتجمع في تلك الكرة في علاقة تكافلية عنوانها الضوء مقابل المأوى، فالسمكة توفر الغذاء و المأوى لهذه البكتيريا، و هذه الاخيرة تمنحها الضوء. لكن فيما ستستخدمه سمكة الصياد؟
تتخذ هذه السمكة مكانا ملائما فتأتي بعض الكائنات نحوها و قد تملكها الفضول اتجاه ذلك الضوء العجيب المنبعث من رأسها، و في رمشة عين يجد ذلك الكائن نفسه بين فكي هذا الوحش المهيب. لقد قاده فضوله الى الموت.
الحبار المضيء
من المؤكد أنك قد سمعت بالحبار و هو كائن ضخم يعيش في البحار سمي بهذا الاسم لأنه يطلق حبرا إذا تعرض للتهديد ليربك حسابات مفترسه، لهذا الكائن قريب له يعيش في الاعماق يسمى الحبار المضيء، لكن بدلا من أن يقذف بالحبر فإنه يضيء إضاءة قوية إذا ما حاول مفترس التهامه، إن ما يحدث للمفترس يشبه ما يحدث لك إذا كنت في غرفة مظلمة ثم قام احدهم بتسليط كاشف ضوء قوي صوب وجهك مباشرة فسوف تنبهر لبضع ثواني، و تلك الثواني هي التي يحتاجها الحبار المضيء ليفر من قبضة المفترس.
من أمثلة كثيرة للكائنات الحية المضيئة اتضح للعلماء أن دور الضوء يختلف من كائن لأخر، فالبعض يستخدمه كوسيلة دفاع، و البعض الاخر لاصطياد الفرائس أو للتزاوج…
الكائنات المضيئة في اليابسة
لنترك البحار و المحيطات و لنعد إلى اليابسة، إن ظاهرة التوهج الحيوي ليست شائعة كثيرا بين حيوانات البر فهي تقتصر على بعض أنواع الحشرات و أيضا الفطريات، في غابات أمريكا الجنوبية توجد حشرة تدعى خنفساء ذبابة النار، و رغم تسميتها بالذبابة إلا أنها تنتمي الى الخنافس و هي بحق احدى عجائب الطبيعة، فعندما يحل الليل تحط أعداد كبيرة منها فوق شجرة تم تشرع في اصدار ومضات ضوئية فتضيء الشجرة و تنطفئ و كأنها شجرة عيد ميلاد، و بالإمكان مشاهدة هذا الضوء من مسافة بعيدة، و هناك رواية متداولة تقول أن أحد القراصنة الانجليز كان ينوي غزو جزيرة كوبا لانتزاعها من يد الاسبان فلما وصل قبالة سواحلها ليلا شاهد تلك الاشجار المضيئة بفضل الخنافس فظن أن الاسبان يتربصون برجاله في الغابة، فعاد أدراجه.
لو أمسكت بحشرة ذبابة النار فسترى كيف أن جزئها السفلي يضيء بلون اخضر ثم ينطفئ و كأن مصباحا كهربائيا قد ركب بها، يشع الضوء بضع ثوان ثم يختفي و بفضل هذا الضوء تستطيع ذبابة النار أن تهتدي إلى باقي أفراد نوعها وسط الغابة ليلا تماما كما تهتدي السفن المبحرة بضوء الابراج على الساحل.
كهف نيوزلندا المضيء
ارتبطت الكهوف في مخيلتنا بالظلام الدامس المثير للرعب، لكن الأمر ليس كذلك في كهف ويتومو بنيوزلندا، فلقد بددت فوانيس طبيعية ظلامه و أصبح كالسماء المرصعة بالنجوم، و ما تلك الفوانيس إلا ديدان صغيرة مضيئة تعيش في سقف الكهف تضيء بنورها المكان، و هذا ما جعل من كهف ويتومو قبلة للزوار من كل أنحاء العالم.
بمجرد ما تصدر صوتا قويا كأن تضرب براحة يديك مثلا تنطفئ الديدان، و يحل الظلام، فإذا ما ساد الهدوء أضاءت مرة أخرى، تعيش هذه الديدان حصريا في نيوزلندا و يجهل العلماء لحد الان الهدف من هذا الضوء.
دودة قطار سكة الحديدية
يبدو اسم هذه الدودة التي تعيش في أمريكا الجنوبية غريبا لكن لو رأيتها في الظلام لعرفت لماذا حازت على هذا الاسم، في البدء تبدو مجرد دودة عادية كسائر الديدان لكن إذا ما حل الظلام فسوف تشاهد أحد أعاجيب الطبيعة، بحيث تضيء الدودة بضوء اخضر يرى بوضوح فتبدو و هي تتحرك أشبه بقطار مضيء يسير في الليل، و مما يثير حيرة العلماء أن هذه الدودة تستطيع أن تتحكم في أضوائها كما يفعل سائق القطار، فقد تكتفي بالأضواء الامامية فقط و اذا ما احست بالخطر فإنها تضيء كل المصابيح دفعة واحدة فيبتعد المفترس عنها معتقدا أنها سامة.
الفطر المضيء
من المؤكد أنك قد صادفت الفطريات و هي تنمو في الغابة لكن هل سبق لك أن شاهدت فطرا مضيئا قد يبدو الأمر أقرب الى الخيال، لكن هذا النوع من الفطر حقيقي و موجود في غابات استراليا و امريكا الجنوبية.
لا ينتمي الفطر إلى النباتات بل يشكل مملكة خاصة به تسمى مملكة الفطريات، و هو يعيش متطفلا على حساب الكائنات الاخرى الحية منها و الميتة، يتجلى الفطر المضيء للناظرين عندما يحل الليل و يسود الظلام في الغابة، إذ تنتشر الألوف منه على الأرض و فوق أغصان الشجر مشكلة مشهدا يخطف الانفاس، هذا الضوء هو من القوة بحيث بالإمكان قراءة كتاب بواسطته.
حقا مازالت الطبيعة تبهرنا بعجائبها التي لا تنقضي و مازلنا في حاجة إلى تأملها لنتعلم من تصاميمها فكما يقال الطبيعة كانت و لازالت أكبر معلم للبشرية.
المصادر
American museum of Natural history. Creatures of light nature’s bioluminescence.
Notice: Test mode is enabled. While in test mode no live donations are processed.