You are currently viewing معركة هولندا مع البحر

معركة هولندا مع البحر

كتب المؤرخ الروماني بليني الأكبر عن هولندا عندما زارها في القرن الأول ميلادي ما يلي:

إنها أرض يرثى لها تغرق مرتين في اليوم بحيث يضطر الناس فيها للعيش في تلال مرتفعة بنوها بأنفسهم، تلال يتعدى علوها أعلى مستوى عرفوه لارتفاع المياه

لقد كان هذا وصفا دقيقا لهولندا في القرون الماضية، فتقريبا تلت أراضيها كان مغمورا فيما مضى بمياه البحر بشكل دائم أو موسمي، و فيما خاضت شعوب كثيرة حروبا طويلة مع شعوب اخرى فإن معركة هولندا الرئيسية كانت و لا تزال مع المياه، كيف استطاعت هذه الدولة أن تكسب أراضي زراعية جديدة على حساب البحر بل و أكثر من ذلك أن تتحول إلى قوة فلاحية عظمى بحيث تعتمد عليها دول كثيرة تتمتع بأراضي جيدة ؟ هذا ما سنحاول التعرف عليه في هذه المقالة. ان معركة هولندا مع البحر تظهر لنا بجلاء كيف أن الاكراهات الطبيعية لا يمكن أبدا أن تكون قدرا محتوما ليس في استطاعة الشعوب تغييره.

لماذا يهدد البحر هولندا؟

لو تأملت في موقع هولندا فسوف تجد أنها تقع شمال بلجيكا و شمال غرب ألمانيا، تقريبا تلت أراضيها يقع تحت سطح البحر و النسبة الاخرى توجد على ارتفاع ضئيل منه حتى ان أعلى قمة في هولندا بالكاد ترتفع ل 320 متر، و من المؤكد أنك تتساءل كيف لأراضي توجد تحت مستوى سطح البحر ألا يغمرها البحر؟  لقد تحقق هذا الانجاز العظيم بفضل كفاح طويل الامد ربما بدأ منذ أن استوطن الانسان هذه المنطقة من العالم.

تظهر مقارنة خريطتين لهولندا الاولى حاليا  و الاخرى لسنة 1300 اختلافا واضحا و جليا، فمساحة كبيرة من البلاد تقدر بالثلث كانت مغمورة بمياه بحر الشمال و قد أضحت اليوم جزءا من اليابسة، و لا تقف مشكلة هولندا مع البحر فقط بل أيضا مع الأنهار، فالبلاد تخترقها أنهار كبيرة قادمة من أوروبا أشهرها نهر الراين القادم من سويسرا و ألمانيا لتصب في بحر الشمال و كلما فاضت هذه الأنهار إلا و أغرقت معها مساحات كبيرة من الأراضي. لذلك فهولندا حقا كانت توجد بين مطرقة البحر و سندان الأنهار.

خريطة هولندا حاليا
معركة هولندا مع البحر
خريطة هولندا سنة 1300

و قد يتساءل المرء ما الذي دفع الانسان ليستقر في أرض بهذا الشكل مليئة بالمستنقعات و عرضة لفيضان أنهار كبيرة و أيضا منخفضة لدرجة أن ارتفاعا بسيطا في مياه البحر كفيل بإغراق مساحات شاسعة منها؟

السر الذي جذب الناس لهذه الأراضي هي خصوبتها، فتلك الأنهار لا تجلب المياه فقط بل أيضا رواسب غنية مما جعل من تربة هولندا واحدة من أخصب الترب في العالم، و لذلك غامر الناس بالاستقرار في هذه الارض رغم تهديد الغرق مقابل الثروة الزراعية التي تنتجها.

و لقد دفع الهولنديون ثمن هذا الاختيار اكثر من مرة فتاريخ البلاد حافل بالفيضانات المدمرة، و لا توجد معركة خاضتها هولندا أكثر ضراوة و شراسة من معركتها مع المياه، حتى أن كفاءة الحكومة في هولندا منذ القدم كانت مرتبطة بمدى قدرتها على تدبير مشكلة المياه و الحفاظ على اقدام الهولنديين جافة.

الطواحين اولى اسلحة معركة هولندا مع البحر

تلقب هولندا ببلاد الطواحين إذ تنتشر الالاف منها في مختلف أنحاء البلاد، و معظمها يعود لقرون خلت و هي جزء من الإرث الثقافي الهولندي، هذه الطواحين هي من الطرق التي استخدمت لتجفيف الاراضي، فالطاحونة بالإضافة إلى أنها تقوم أثناء دورانها بطحن الحبوب فإنها تنقل في الان ذاته الماء من أرض مغمورة تم ترسله عبر قنوات تنتهي في البحر، و بتلك الطريقة تصبح الارض جافة و صالحة للزراعة.

إلا أن هذه الارض المكتسبة تكون مهددة بالغرق على الدوام، إذ يكفي أن تهب عاصفة فتثير أمواج بحر الشمال ليستعيد البحر تلك القطعة مجددا مزهقا بذلك أرواحا كثيرة و ملحقا خسائر فادحة، ثم تعاد الكرة من جديد فيعاد استصلاحها و هكذا.

مشروع سد بحر الشمال

رغم أن هولندا التزمت بالحياد خلال الحرب العالمية الاولى إلا أنها لم تسلم من الخسائر الاقتصادية التي ضربت اوروبا ككل، و فيما كان الهولنديون يبحثون عن حل لأزمة الغذاء و تدني مستوى المعيشة أتى فيضان هائل ليطرق بابهم، فقد تسببت عاصفة في رفع منسوب البحر فأغرق مساحات هائلة من البلاد و تسبب في مقتل الالاف، و أمام هذا الوضع المزري لم يعد أمام الهولنديين من حل سوى التفكير و العمل جديا لحل هذه المعضلة التي أقضت مضجعهم على مر العصور.

لقد خلص بهم التفكير الى بناء سد كبير يحمي البلاد من بحر الشمال، من أجل ذلك تم تجنيد 7000 عامل و استوردت حجارة كبيرة من ألمانيا و بلجيكا، و امتد هذا العمل المضني من سنة 1927 الى 1933 و بذلك استطاع الهولنديون و بوسائل تقنية بسيطة بناء أطول سد في العالم، و بفضله تحولت مناطق كثيرة كانت عبارة عن بحيرات في السابق إلى اراضي زراعية خصبة تنتج أجود الغلال.

سد بحر الشمال

بيد أن معركة هولندا مع البحر لم تنتهي بهذه السرعة، ففي سنة 1953 كانت هولندا على موعد مع كارثة هي الأسوأ من نوعها في تاريخ البلاد، اذ تسببت عاصفة قوية في تشكل امواج هائلة وصل ارتفاعها ل 7 امتار استطاعت ان تتخطى بسهولة سد الشمال لتصبح كل الاراضي التي وراءه تحت رحمة البحر من جديد. لقد تسببت هذه الكارثة في وفاة 1800 شخص كما تشرد الالاف و سجلت خسائر هائلة في الممتلكات.

سد الذراعين المتحركين

بعد هذه الكارثة التي لا تزال محفورة في ذاكرة الهولنديين جاء مشروع أعمال الدلتا و الذي تضمن إقامة سلسلة كبيرة و متطورة من السدود التي لا يوجد لها مثيل في العالم، و من أشهرها سد ميزلانتكيرينج الذي هو عبارة عن ذراعين عملاقيين متحركين كل واحد منهما بحجم برج إيفل يقفل عند ارتفاع منسوب البحر، يعمل هذا النظام الدفاعي بكفاءة عالية جدا إذ لو لم يتم إقفاله في الوقت المناسب فستغرق مدينة نوتردام ثاني أهم مدينة في هولندا بعد العاصمة امبستردام، أما إذا تم إقفاله بسبب توقعات خاطئة فهذا يعني توقف الحركة في ميناء نوتردام أكبر موانئ أوروبا و بالتالي التسبب في خسائر مالية فادحة.

إن هولندا تعمل بمبدأ الوقاية خير من العلاج، فالأموال الطائلة التي تصرف في إقامة منشئات دفاعية بهذا الحجم هي أقل تكلفة من عدم فعل شيء و انتظار وقوع الكارثة و من تم إعادة البناء.

يقدر عدد الاشخاص الذين ماتوا بعد سنة 1953 بسبب الفيضانات بصفر، و قرابة 17 مليون شخص يعيشون في هولندا واثقون في دفاعاتهم التي تعمل إلى اليوم بشكل جيد لكن هل في وسع هولندا أن تصمد أمام التغيرات المناخية التي تضرب العالم؟

المصادر

https://www.holland.com/global/tourism/holland-stories/land-of-water/water-story.htm

Notice: Test mode is enabled. While in test mode no live donations are processed.

$
Select Payment Method
Personal Info

To make an offline donation toward this cause, follow these steps:

  1. Write a check payable to “الثقافية”
  2. On the memo line of the check, indicate that the donation is for “الثقافية”
  3. Mail your check to:

    الثقافية
    111 Not A Real St.
    Anytown, CA 12345

Your tax-deductible donation is greatly appreciated!

Donation Total: $100.00

اترك تعليقاً