لطالما استهوت الأحافير الانسان فهي البوابة نحو اكتشاف الحياة التي كانت سائدة في الأزمنة السحيقة، لقد عرفت الأحافير منذ القدم لكنها لم تحظى في البدء باهتمام كبير فقد ظن الناس للوهلة الأولى أنها مجرد أحجار عادية شكلتها الطبيعة و اتخذت صدفة شكل كائنات حية، لكن بعد أن تبين فيما بعد أنها عبارة عن بقايا لحيوانات و نباتات عاشت في زمن سحيق و انقرضت أصبحت لها مكانة كبيرة في الحقل العلمي. اليوم تعج متاحف العالم بالأحافير التي تم استخراجها على يد علماء الأحافير و الهواة، فمنذ ثلاث قرون خلت تقريبا و عمليات الحفر و التنقيب و الدراسة تسير على قدم و ساق. ماهي الأحافير و ما الذي تخبرنا به حول نشأة الحياة؟
ماهي الأحافير؟
الأحافير هي بقايا كائنات حية عاشت قديما حفظت في الصخور، أما طريقة تشكلها فهي كالتالي:
بعد موت الكائن الحي و إذا ما تعرض للدفن بسرعة تحت طبقة من الرمال أو الطين مثلا فإن أجزاؤه الطرية كاللحم و الجلد تتحلل فيما تتبقى فقط أجزاؤه الصلبة كالعظام و القواقع، و بعد مرور الزمن تأتي طبقة جديدة من الرمال و الطين لتترسب فوق الطبقة التي سبقتها و في نهاية المطاف يصبح الكائن الحي مدفونا تحت مئات الامتار من الطبقات الصخرية و يتحول هو نفسه إلى صخرة أو متحجرة.
إذن فالأحافير تتواجد أساسا في الصخور الرسوبية و من النادر أن تجدها في الصخور البركانية أو المتحولة، فهذه الاخيرة و بسبب الضغط و الحرارة اللذان تتعرضان له فإن الأحافير تصبح مشوهة لدرجة يصعب تمييزها.
و ما المتوقع أن تجد في الطبقات الرسوبية التي تضم الأحافير؟
سوف تعثر على بقايا كائنات حية كالعظام و القواقع و الأسنان أو حتى مجرد أثار للأقدام، و في بعض الأحيان قد تجد الكائن الحي كاملا في حالة ما إذا دفن تحت طبقات من الجليد أو إذا ما احتجز في مادة صمغية للأشجار، بفضل هذه الأحافير استطاع العلماء تكوين صورة واضحة عن الحياة التي كانت سائدة في الأزمنة السحيقة التي سبقت مجئ الانسان بكثير.
استخراج الاحافير
لم تكن مهمة استخراج الأحافير في يوم من الأيام حكرا على العلماء وحدهم بل في استطاعة أي شخص القيام بذلك، و بالفعل ففي القرن التاسع عشر و عندما تأكد للناس أن الأحافير هي بقايا لكائنات حية قديمة ازدهرت أعمال التنقيب، و كانت الأحافير تباع بأثمنة باهظة كنوع من التحف النادرة، يذكر التاريخ فتاة تدعى ماري إنغ كانت تمضي معظم وقتها و هي تصول و تجول في الشواطئ الجنوبية لبريطانيا بحثا عن الأحافير و كسبت من وراء ذلك معيشتها، و رغم أن ماري كانت تقوم بهذا العمل بدافع المال اساسا إلا أنها قد خدمت علم الأحافير و كانت أكبر المساهمين في تطوره، إذ أثبتت اكتشافاتها المبهرة أن هناك كائنات حية عاشت و انقرضت في وقت كان الكثير من العلماء ينفون مسألة الانقراض جملة و تفصيلا، و يزعمون أن الأحافير المكتشفة لابد أنها تعود لحيوانات لا تزال تعيش في مكان ما على الارض.
لم تنل ماري إنغ كغيرها من مكتشفي الأحافير أن ذاك الشهرة التي كانت تستحق، فالكثير من علماء الحفريات نسبوا اكتشافاتها إليهم، و القليل من كرم مجهوداتها بتسمية بعض الأنواع باسمها، و على كل فقد فتحت تلك الاكتشافات الباب على مصراعيه لسبر أغوار عالم الكائنات القديمة المشوق و المثير.
إن سجل الأحافير العالمي قد شارك في إنشائه كل من الهواة و العلماء على حد سواء، لكن العلماء وحدهم هم الذين تولوا عملية دراسة الأحافير بدقة و تحديد أي نوع من الكائنات تمثل و متى عاشت و كيف كانت الظروف السائدة في زمنها و غير ذلك من المعلومات التي لا يمكن لغير المتخصصين التوصل إليها.
ما الذي تخبرنا به الأحافير؟
حول نظرية التطور
في القرن التاسع عشر أتى عالم الاحياء البريطاني تشارلز داروين ليضع نظريته الشهيرة المتعلقة بأصل الأنواع و ذلك بعد رحلة استكشافية قادته إلى امريكا الجنوبية، فبعد ملاحظات معمقة في شكل الكائنات الحية توصل لظريته المعروفة في الأوساط العلمية باسم نظرية التطور و التي ذكرها في كتابه أصل الأنواع الذي كان أحد أكثر الكتب مبيعا في القرن التاسع عشر، و مضمون نظرية التطور هو كالتالي:
بما أن كل الكائنات الحية تشترك في نفس المكون الأساسي ألا و هو الخلايا، و بما أن هناك تشابه كبير بين أعضائها فهذا دليل على أن كل الكائنات الحية بما فيها الانسان قد انحدرت من أصل مشترك، و هذا الأصل حسب داروين هو عبارة عن بكتيريا ظهرت فجأة على سطح الأرض أول مرة قبل 4 بليون سنة، ثم بدأت تتكاثر و تتطور مع مرور الزمن حتى نتج عنها كل الكائنات الحية التي نعرفها، و حسب داروين فالكائن الحي يستطيع أن يطور صفات جديدة تمكنه من العيش فيما تختفي الكائنات التي لا تنجح في فعل ذلك، في حالة الزرافة مثلا فإن تلك التي طورت صفة العنق الطويل نجحت في البقاء فيما انقرضت تلك التي كانت رقابها عادية، و على أساس نظرية التطور فإن أسلاف البشر مثلا هم القردة العليا، و أكد داروين على ضرورة وجود كائنات تمثل المرحلة الانتقالية من القردة إلى البشر لذلك اتجهت الانظار نحو علم الاحافير ليثبت أو ينفي صحة هذه النظرية.
هذا يفسر لنا الارتباط الوثيق بين الأحافير و نظرية التطور، لأن الكائنات الحية التي تعيش بيننا اليوم لا تؤيد هذه النظرية فالاختلافات بينها يجعل من الصعب تصور أن تكون كلها منحدرة من جد مشترك، لذلك كانت الاحافير هي حبل النجاة الوحيد الذي يمكن أن يبقي هذه النظرية حية.
و على أساس ما تذكره نظرية داروين فمن المفترض أن نجد في الأحافير تسلسلا في تطور الكائنات بجميع مراحله، فبما أن داروين يدعي أن أصل الحيوانات البرية هي الأسماك فيجب أن نجد أحافير لكائنات تمثل حلقة وسيطة بين الأسماك و الحيوانات البرية، و في حالة الانسان مثلا يجب أن نجد أحافير لكائنات وسيطة بين الشامبنزي و الانسان و لكن الحقيقة المؤكدة أن الأحافير لا تظهر شيئا من ذلك البتة.
و حسب نظرية التطور دائما و بما أن الكائنات قد تطورت من كائن بسيط و هو البكتيريا فيجب أن تكشف الأحافير وجود كائنات بسيطة في البداية تزداد تعقيدا مع مرور الزمن، حتى انتهى بها الحال الى شكلها الحالي، لكن مرة اخرى خيبت الأحافير ظن أنصار التطور، اذ على العكس من ذلك تظهر كائنات بالغة التعقيد كالديناصورات مثلا عاشت لفترة معينة ثم انقرضت لا تقل في كمال تصميمها عن الكائنات الموجودة حاليا.
و ماذا عن نظرية الخلق؟
إن سجل الاحافير يخبرنا بقصة مغايرة تماما لتلك التي ترويها نظرية التطور، فالذي حدث هو أنه و في فترة من عمر الارض تدعى بالزمن الكمبري ظهرت كل أشكال الحيوانات جملة واحدة و كأنه قد حدث انفجار للكائنات الحية، و لذلك يسمي العلماء هذه الفترة بالانفجار الكمبري، لقد ظهرت كائنات حية كاملة بأعضائها المعقدة كالأعين و الأطراف و غيرها دون أن تكون مسبوقة بحيوانات قبلها أقل تطورا و تعقيدا، و لنفهم كيف كان هذا الانفجار فجائيا دعونا نتصور أن عمر الارض كله هو يوم واحد أي 24 ساعة فالذي تظهره الأحافير أنه و طيلة 21 ساعة لم تكن تعيش على الأرض سوى كائنات صغيرة بسيطة التركيب، ثم فجأة و عند الساعة 21 تظهر الكائنات الحية بأشكالها المعقدة بعضها انقرض و بعضها لا يزال موجودا، و كم تطلب مدة ظهور كل هذه الكائنات في نظرك مجرد ثانيتين من اليوم.
ان الانفجار الكمبري للكائنات الحية الذي تثبته الأحافير ينسف نظرية التطور بالكامل و في المقابل فهو يثبت فكرة الخلق، و قد اعترف تشارلز داروين بذلك في كتابه أصل الأنواع، إذ ذكر أنه في حالة ما أثبتت الحفريات ظهورا فجائيا للأنواع فهذا دليل على الخلق.
إن ظهور الكائنات الحية في فترة زمنية ضيقة جدا و بشكل فجائي لا يمكن أن يكون دليلا إلا على شيء واحد و هو أن هذه الكائنات قد خلقت من طرف الخالق. و بذلك ففي الوقت الذي تفسر نظرية التطور الاختلافات الموجودة بين الكائنات الحية اليوم على أنها نتيجة لخضوعها لعملية تطور طويلة الأمد انطلاقا من أصل مشترك فإن الأحافير تثبت بما لا يدع مجالا للشك أن هذه الاختلافات كانت موجودة منذ أن وجدت هذه الكائنات.
المصادر
كيت طومسون. الحفريات مقدمة قصيرة جدا.مؤسسة هنداوي لنشر المعرفة و الثقافة. 2017