إن حال اللغة العربية اليوم عجيب و غريب، فرغم ما اجتمع في هذه اللغة من مزايا عدة من بلاغة و سلامة النطق و كثرة المفردات و رغم كونها أحد اقدم اللغات التي بقيت بلا تغيير، فهي أكثر لغة في الارض تعرضت للتحقير و الاقصاء حتى من الناطقين بها فما من نقيصة إلا الصقوها بالعربية و ما من محمدة إلا نفوها عنها، لقد بدأت محاربة اللغة العربية منذ الفترة الاستعمارية تشتد تارة و تخبو اخرى و استخدمت خلالها كل الوسائل الممكنة و مازالت هذه الحملة الشرسة قائمة الى اليوم.
لمحة عن اللغة العربية
العربية هي رابع لغات العالم انتشارا بعد كل من الصينية و الانجليزية و الهندية، و ينظر إليها على كونها أحد أقدم اللغات التي لم يلحقها الكثير من التغيير، فما زالت عربية اليوم هي عربية صدر الاسلام.
و قبل الحديث عن أهمية اللغة العربية فإن اللغة تمثل أساسا الجزء الأكبر من هوية الشعوب، فهي ليست مجرد كلمات للتواصل بل إنها تحمل في طياتها الكثير من الافكار و المعتقدات و المشاعر فتجعل من المتحدتين بها يشكلون شعبا واحدا، و لذلك عندما ينشب نزاع في منطقة بين دولتين أو أكثر فإن اللغة المستخدمة غالبا هي التي تحدد شخصية المنطقة المتنازع عليها.
و لأهمية اللغة في تشكيل هوية الشعوب و تميزها عن بعضها فإن الدول المتقدمة تتعلق بلغتها القومية غاية التعلق و لا ترضى عنها بديلا لأن ذلك هو رمز استقلاليتها، يقول الفيلسوف الالماني فيخته ” أينما توجد لغة مستقلة توجد أمة مستقلة لها الحق في تسيير شؤونها”.
و نظرا لمكانة اللغة فإنها تحدد في المواد الأولى للدستور الذي هو القانون الأعلى لأي دولة.
محاربة اللغة العربية باللهجات المحلية
بدأ الترويج لهذه الفكرة في القرن التاسع عشر أي في الفترة الاستعمارية، و هي تدعو إلى اتخاذ اللهجات المحلية بدلا من العربية بدعوى أن هذه الاخيرة لغة صعبة لا يجيدها عامة الناس، و الدول المستهدفة بالدرجة الأولى كانت مصر و بلاد الشام.
من المعروف أن العامية مشتقة من العربية الفصحى لكنها متحررة من القواعد اللغوية، فهي لا تحترم قواعد الصرف و النحو و غير ذلك على عكس العربية الفصحى الخاضعة لنظام لغوي دقيق، و هذا الازدواج في اللغة حاصل مع كل لغات العالم، و يبقى مجال العامية هو المحادثات اليومية أما اللغة الرسمية فمجالها هو الأداب و العلوم….
و من أجل الترويج لهذه الدعوة فقد ألفت كتب و أصدرت الكثير من الأبحاث في أوروبا تهتم باللهجات العامية العربية، بل إن بعض الدول الاوروبية أدخلت تدريس هذه اللهجات الى منهجها الدارسي الجامعي، و بدأت اولى محاولات تطبيق هذه الفكرة في مصر فقد قام مدير دار الكتب المصرية الألماني فلهام سبيتا في القرن 19 بتأليف كتاب سماه قواعد العامية المصرية، بين فيه معاني الالفاظ و حاول إيجاد قواعد لهذه اللهجة حتى يتم تعميمها و كان يدعو المصريين على الدوام إلى أن يكتبوا و يتعلموا بلهجتهم التي تتسم بالبساطة و أن يتخلصوا من اللغة العربية التي أثقلت كاهلهم.
أما المهندس الانجليزي وليام ويلكوكس فقد كان أكبر رواد هذه الحركة، و أكد في اكثر من مناسبة أن اللغة العربية هي أكبر عائق يمنع المصريين من التقدم، و أنهم لو ألفوا و كتبوا بالعامية لتفجرت داخلهم ملكة الابداع و الابتكار.
و للأسف فقد أتت جهود هؤلاء المستشرقين أكلها، ففي مصر أصبحت هناك 17 جريدة تصدر بالعامية كما أن كتابا مشهورين أيدوا هذه الفكرة كرفاعة الطهطاوي و سلامة موسى و غيرهم، و الذي يثير السخرية أنه لم يسبق لأحد من هؤلاء أن كتبوا كتابا واحدا بالعامية لأنهم كانوا يعلمون علم اليقين أكثر من غيرهم أنهم سيحكمون على كتبهم بالموت، فظلوا يكتبون بالعربية الفصحى كتبا تنادي باتخاذ العامية لغة كتابة و تعليم.
و في المقابل كان هناك كتاب كثر جندوا قلمهم للدفاع عن اللغة العربية كصادق الرفاعي، طه حسين و نجيب محفوظ الذي قال: منذ ان بدأت الكتابة و أنا حريص على استعمال الفصحى و البعد قدر الامكان عن العامية لأن هناك في بلادنا عدة لهجات للعامية، فالصعيد يتحدث بلهجة عامية ووجه بحري لهم لهجتهم و داخل البلد الواحد قد لا يفهم سكانه بعضهم بعضا بسبب اختلاف اللهجات المحلية.
إن الحماس المنقطع النظير الذي أبداه الأوروبيون من أجل احلال العامية بدل العربية ليدعوا إلى الاستغراب، و لم تكن دول المشرق العربي وحدها المستهدفة بل كان أيضا لدول المغرب العربي نصيب، يذكر المفكر و المؤرخ المغربي عبد الله العروي أن إدارة الحماية الفرنسية كانت تنوي جعل العامية لغة رسمية في المغرب و استدعت من أجل ذلك عددا من المختصين في اللسانيات و اللهجات فأجمعوا لها على فشل هذا المشروع.
ما الذي كان يهدف اليه مروجو هذه الفكرة ؟
لقد كان الهدف الرئيسي و الاستراتيجي هو قطع الصلة مع اللغة العربية و مع الدين الاسلامي فيما بعد باعتبار أن العربية هي لغة الوحي، فعندما سيتم اعتماد اللهجات المحلية و نظرا للسرعة التي تتطور بها بسبب تحررها من القواعد فستصبح أبعد ما تكون عن العربية مستقلة عنها كاستقلال اللغة الاسبانية أو الايطالية مثلا عن اللاتينية القديمة، و بالتالي فإن كل التراث الادبي و العلمي و الديني سيصبح غامضا بالنسبة للأجيال القادمة.
اللغة أيضا لها أثر عظيم في تقوية الوحدة و الترابط بين الناطقين بها فإذا انتشرت العامية فسيتم قطع الطريق على أي وحدة بين العرب و المسلمين.
اعتماد الحروف اللاتينية بدل العربية
بموازاة الدعوة لاتخاذ العامية لغة رسمية كانت هناك دعوة أخرى لا تقل عنها خطورة و هي استخدام الحروف اللاتينية في الكتابة العربية و ذلك بدعوى أن الأحرف العربية معقدة، و كان المستشرقون الأوروبيون أول من زرع بذور هذه الفكرة من أمثال الفرنسي لويس ماستون الذي ألقى محاضرة سنة 1929 على جمع من الطلاب العرب خلص فيها إلى أنه لا حياة للغة العربية إلا إن كتبت باللاتينية.
و قد لاقت هذه الدعوة رواجا و قبولا بين الكثير من الكتاب و المفكرين العرب المنبهرين بالحضارة الغربية مقتدين في ذلك بالأتراك، و من هؤلاء الكاتب المصري عبد العزيز فهمي الذي قدم بحثا لمجمع اللغة العربية بالقاهرة يدعو فيه لإحلال الحروف اللاتينية بدل العربية و قد ورد فيه:
إن اللغة العربية هي من أسباب تأخر الشرقيين لأن قواعدها عسيرة و رسمها مضلل، لقد فكرت في هذا الموضوع من زمن طويل فلم يهدني التفكير إلا إلى طريقة واحدة و هي اتخاذ الحروف اللاتينية و ما فيها من حروف الحركات بدل حروفنا العربية كما فعلت تركيا.
و لم يكن من مجمع اللغة العربية إلا أن رفض هذا المشروع جملة و تفصيلا. حيث تم اعتباره مشروعا لا يستسيغه العقل و لا يقبله المنطق و لا يصلح حتى لمجرد النقاش.
فلو كتب لهذه الفكرة النجاح فلم تكن ستمضي إلا عقود قليلة حتى يصبح الحرف العربي غريبا، و بالتالي فإن كل تراثنا العلمي و الأدبي و الديني سيبدو أشبه بالطلاسم و سيحدث ما يمكن أن نصفه بفقدان ذاكرة جماعي، و قد صرح بهذه الحقيقة أحد الوزراء الاتراك في معرض الحديث عن مزايا و مساوئ استبدال الحروف العربية باللاتينية في تركيا فقد قال: إن الضرر الحقيقي الذي شاهدناه هو أن الطريقة الجديدة في الكتابة قد قطعت الصلة بين الجيل الجديد و بين مخلفات السلف في العلوم و الاداب و الفنون.
إن اركان الهوية تتحدد فيما يلي اللغة، الدين و التراث فإذا ما ضاعت اللغة العربية فإن الارث الديني الضخم سيندثر لا محالة و كذلك التراث و أمة بلا هذه الاركان لن يكون لها حاضر و لا مستقبل
محاربة اللغة العربية بتمجيد اللغات الاجنبية
هذه واحدة من الأساليب المتبعة من أجل إقصاء اللغة العربية و هي تهدف إلى جعل الناس ينظرون إلى اللغة الاجنبية على أنها أكثر رقيا و الى المتحدث بها أنه أكثر تقدما و علما من غيره، و بالتالي يتهافت الجميع على تعلم تلك اللغة بل و يجعلونها لغة محادثاتهم و كتاباتهم، و قد تم التخطيط لهذه الفكرة منذ الفترة الاستعمارية.
ففي البداية يتم تنشئة طبقة بورجوازية تكون موالية للبلد المستعمر لغة و فكرا و هذه الطبقة هي التي ستستحوذ على أسمى المناصب.
الخطوة الثانية هي جعل اللغة الاجنبية هي السائدة في وسائل الاعلام و الشركات و المؤسسات.
الابقاء على اللغة العربية متداولة بين أبناء الشعب. لأنهم لن يشغروا مناصب ذات اهمية.
و كنتيجة لهذه الخطة المحكمة سوف يبدو للمتحدث باللغة الاجنبية على أنه أرقى و أكثر تقدما، و سيترسخ في ذهن الناس أن اللغة العربية هي سبب تخلفهم، و أن الطبقة البورجوازية لم تكن لتحقق ما حققته إلا بفضل اعتمادها على اللغة الأجنبية التي هي لغة العلم و المعرفة، و سيصل الأمر إلى أن يجد الشخص الذي يتكلم العربية نفسه و الأمي على درجة واحدة.
العربية لا تصلح للعلم
من الدعاوى التي تبناها بعض من تجندوا لمحاربة اللغة العربية هو كونها لا تصلح لتكون لغة علم و معرفة، و السؤال الذي ننتظر من أنصار هذه الدعوة الإجابة عنه هو كيف يمكن تفسير كون العربية كانت لغة العلم طيلة القرون الوسطى لدرجة أن كثيرا من المصطلحات العلمية المستخدمة حاليا هي عربية في الأصل. ثم لكل من يدعي ان العربية ليس في استطاعتها مواكبة علوم و تكنولوجيا العصر الحالي كيف غاب عن ذهنه أن اللغة العربية قد اخذت الكثير من المفردات العلمية من لغات أخرى كالفارسية و اللاتينية و الهندية ثم ألبستها ثوبا عربيا و أصبحت متداولة بين الناس.
إن هذه الدعوة هي التي جعلت الكثير من الدول العربية تعتمد على اللغة الانجليزية أو الفرنسية في التعليم باعتبار أن التدريس بالعربية يعتبر عائقا أمام التفوق العلمي في الوقت الذي تدرس فيه معظم دول العالم العلوم بلغاتها الوطنية. فالفرنسي يدرس الطب مثلا بالفرنسية و الاسباني بالاسبانية و الصيني بالصينية بل ينطبق الأمر ذاته مع دول ذات لغات محدودة من حيث عدد الناطقين بها. و ذلك لأنه عندما تدرس العلوم باللغة الوطنية ينتشر العلم بين عامة الناس و لا يقتصر على النخبة التي تجيد لغة أجنبية.يقول الكاتب حمد بن محمد ال فريان في مقاله تجارب ناجحة في تعليم الطب بالعربية:
“لقد تيقن العالم أجمع أن اللغة الأم هي الأجدر و هي الأحق بأن تكون لغة العلم و لسان التعليم في كل دولة و في هذا السياق يذكر الباحثون اللغة اليابانية حيث اصبحت لغة علم لليابانيين و لمن وفد عليهم لينهل من علمهم و لا أحد ينكر ذلك و بهذا المفهوم يعتبر تعجيم العلوم في الوطن العربي غلطة تعليمية تاريخية كبرى لا نظير لها “
ففي دراسة أجريت في كلية الطب بجامعة الملك فيصل فقد أكد %80 من الطلاب أنهم يوفرون تلت الزمن أو أكثر عند قراءة نص علمي باللغة العربية مقارنة بالانجليزية.
لم يدخر اعداء العربية جهدا في محاربة اللغة العربية لكن خابت مساعيهم جميعا فمازالت العربية منتشرة و متداولة و مازلت تجذب حتى غير الناطقين بها، و كما قال المستشرق الألماني يوهان فك “لقد برهن جبروت التراث العربي الخالد على أنه أقوى من كل محاولة يقصد بها زحزحة العربية الفصحى عن مقامها المسيطر، وإذا صدقت البوادر ولم تخطئ الدلائل فستحتفظ العربية بهذا المقام العتيد من حيث هي لغة المدنية الإسلامية”