كتب الاستاذ بول آر إيرليش سنة 1969 في كتابه القنبلة السكانية و هو يصف العاصمة الهندية دلهي: لقد بدت الشوارع مكتظة بالناس، أناس يأكلون، أناس يغتسلون، أناس نائمون، أناس يتجادلون و يصرخون، أناس يمدون أيديهم عبر نوافذ السيارات يستجدون، أناس يتشبثون بأبواب الحافلات الممتلئة عن اخرها، عندما كانت سيارة اجرتنا تتحرك ببطء شديد وسط الغوغاء بدا المكان بغباره و ضوضاءه و حرارته المرتفعة و كأنه قطعة من جهنم.
لقد كان هذا وصف لدلهي سنة 1969 بيد أن الوضع لم يتغير كثيرا عما هو عليه اليوم، فمازالت مدن الهند مكتظة بشكل لا يتصور، لقد تزايد عدد سكان الهند بوتيرة سريعة جدا فبعدما كانوا لا يتعدون 350 مليون سنة 1947 أي عشية نيل الهند استقلالها عن بريطانيا وصل تعدادهم اليوم أي 2023 ل مليار و 428 مليون، لتتجاوز الهند بذلك الصين التي ظلت متربعة على عرش أكثر دول العالم سكانا لمدة 70 سنة، لقد أخذ النمو السكاني في الصين يتراجع حتى شرعت الشيخوخة تلتهم سكان البلاد لكن الوضع في الهند مغاير تماما فسكانها مازالوا يتزايدون لدرجة أن واحد من كل ستة اشخاص في العالم يعيش في الهند، و يطغى على تركيبتها السكانية طابع الشباب.
فما سبب كثرة السكان بالهند؟
الظروف الطبيعية في الهند
تمت عوامل متعددة فلنبدأ أولا بالعوامل الطبيعية
إن الهند دولة كبيرة المساحة تحتل المركز السابع عالميا، و تقع في المنطقة المدارية و هي تتلقى في الفصل الصيف المطير الذي هو فصل هبوب الرياح الموسمية مقادير هائلة من الامطار، كما تجري في البلاد أنهارا كثيرة أكبرها نهر الغانج في الشمال الذي ينبع من جبال الهيمالايا و يمتد حوله سهل الغانج الفسيح الذي يعتبر أحد أخصب السهول في العالم.
إن هذه الظروف الطبيعية السائدة في الهند هي جد ملائمة للاستقرار البشري.
فالبشر منذ القدم يميلون للاستقرار في المناطق السهلية و يبتعدون عن تلك الجبلية، لأن السهول تسهل عملية التنقل و تتيح إمكانية إنشاء الطرق، كما أن الناس يستقرون حيث تتوفر المياه و التربة الخصبة حتى يقوم النشاط الزراعي و مثل هذه الظروف توجد في الكثير من مناطق الهند، فحوالي % 43 من أراضيها عبارة عن سهول، كما تتلقى أمطارا وفيرة في الصيف و علاوة على ذلك تخترقها أنهار كثيرة أهمها الغانج الذي ينطلق من جبال الهيمالايا محملا بالطمي و جاعلا من السهول حوله الأخصب في العالم، بفضل هذه الظروف الطبيعية فإن أزيد من نصف مساحة الهند صالح للزراعة، و الهند تعتبر ثاني أكبر منتج زراعي في العالم بعد الصين.
قدم التعمير من اسباب كثرة السكان بالهند
بفضل هذه الظروف الطبيعية الملائمة فالهند تعتبر من بين المراكز التي شهدت أول ظهور للزراعة في العالم، و تقريبا لا تفصلها فترة زمنية طويلة عن بداية الزراعة في بلاد الرافدين و مصر، لقد أدى اكتشاف الزراعة إلى استقرار الناس و نشوء المدن و من تم الحضارات، و بالفعل فقد ظهرت في الهند أحد أكبر الحضارات التي سادت في العصور القديمة و هي حضارة وادي السند التي خلفت أثارا ما تزال تشهد على عظمتها إلى اليوم.
هذا يحيلنا إلى عامل ثاني يفسر لنا لماذا الهند مكتظة بالسكان ألا و هو قدم التعمير، ففي زمن حضارة السند كانت الهند هي الأكثر اكتظاظا بالسكان في العالم، و فيما لم يكن عدد سكان مصر القديمة يتجاوز المليونين و الصين 3.5 مليون كانت الهند موطنا ل 6 ملايين نسمة كأقل تقدير.
بعد ذلك بدأت الهند تستقبل شعوبا أخرى في أراضيها و هم الاريون الذين أتوا في الأصل من شرق اوروبا، فاستوطنوا الهند و اوروبا الغربية أيضا، و بعدما استقر بهم المقام في الهند بدأ عدد السكان يتزايد أكثر فأكثر و ظهرت مدن جديدة على طول نهر الغانج، و قامت مملكة موريان لتبسط نفوذها على مساحة شاسعة من الهند. لقد تلا ذلك فتح المسلمين لأجزاء كثيرة من الهند و استمرت الممالك الاسلامية تحكم البلاد حتى مجيء البريطانيين في القرن التاسع عشر، و طوال تلك الفترة عرفت الهند بكثرة سكانها حتى أن البريطانيين كانوا يعتبرون ذلك دليلا على ازدهار البلاد و حسن تسيرها في عهدهم، لقد بلغ تعداد السكان سنة 1800 قرابة 200 مليون حسب تقدير ماديسون.
لقد كانت نسبة الولادات في الهند مرتفعة لكن نسبة الوفيات كانت أيضا مرتفعة، فأمد حياة الانسان في الهند لم يكن يتجاوز 25 سنة و ذلك بسبب تفشي الامراض الخطيرة المعدية كالكوليرا و الطاعون و الجذري و الملاريا، هذه الأمراض كانت تحصد الملايين من البشر أضف إليها المجاعات التي كانت اخطرها مجاعة البنغال سنة 1770 التي أودت بحياة 10 مليون انسان.
دور الاستعمار في الاكتظاظ السكاني
عندما شرع البريطانيون في استيطان الهند وجدوا أنفسهم في بلاد تشهد تفشيا للكثير من الأمراض و تعاني من مجاعات متكررة، فأخذوا أولا في مكافحة الامراض حتى يؤمنوا الجو المناسب لاستقرارهم، ثم مدوا المدن بشبكة الصرف الصحي حتى يحاربوا الكوليرا التي هي مرض بكتيري ينتشر بواسطة المياه الملوثة، كما أجرى البريطانيون حملة تلقيح واسعة النطاق استفاد منها الكثير من الهنود، إن أكبر المنافع التي قدمها الاستعمار للهند كان إدخال الطب الغربي إليها بعدما كان العلاج التقليدي هو السائد، و عندما خرجت بريطانيا من الهند سنة 1947 كانت قد تركت للبلاد 7000 مستوصف.
لقد مكن تحسن الطب من استقرار نسبة مهمة من البريطانيين في الهند و خدم هذا السكان المحليين أيضا بشكل غير مباشر، فمع القضاء على الأمراض الخطيرة و تحسن الزراعة قلت المجاعة و الوفيات الناتجة عن الأمراض و تسبب ذلك بانخفاض معدل الوفيات عامة، بمعنى أن الناس في الهند أصبحوا يعيشون مدة أطول.
إن هذا يفسر لنا لماذا تزايد عدد سكان الهند بوتيرة سريعة، فبعد الاستقلال كان عددهم 250 مليون ليتجاوز سنة 2001 المليار، لقد مكن تحسن نظام الطب من التقليل من الوفيات بيد أن الولادات ظلت مرتفعة لأن قرابة % 60 من المجتمع الهندي يعيش في الريف، و الناس في الريف دائما ما ينجبون عددا كبيرا من الاطفال حتى يكونوا عونا لهم في أشغال الفلاحة.
محاولات للحد من كثرة السكان
لقد أثار التزايد السكاني السريع للهند مضجع حكام الهند و اوروبا و أمريكا على حد سواء، ففي كتابه القنبلة السكانية أشار الكاتب الامريكي ارليخ الى أن التزايد السكاني في الهند سوف تكون له عواقب وخيمة ليس فقط على الهند بل أيضا في الدول المتقدمة، لأن الهنود حالما لن يجدوا موارد تكفيهم للعيش في بلادهم فسينتقلون لبلاد اخرى كالولايات المتحدة و يفسدون بذلك نمط عيش الشعب الامريكي، من أجل ذلك دعا هذا الكاتب أصحاب القرار في بلاده للضغط على الدول ذات التزايد السكاني السريع كالهند من أجل التقليل من سكانها.
و بالفعل أخذت الهند تستجيب للمطالب الخارجية، في البداية اتبعت البلاد سياسة تحديد النسل و ذلك بدعوى الناس الى الاكتفاء بإنجاب طفلين فقط، بيد أنه في عهد انديرا غاندي سنة 1972 أصبح تحديد النسل يأخذ منحى أكثر صرامة إذ نهجت البلاد سياسة التعقيم، فأقيمت معسكرات لهذا الغرض في كل ارجاء البلاد، حيث كان يتم تعقيم الرجال و النساء بشكل تطوعي مقابل مكافأة مالية، و انتشرت في الهند في فترة السبعينات بطاقة التعقيم و التي من دونها كان يجد المواطن صعوبة بالغة في شراء أو بيع أرضه أو منزله أو الاستفادة من خدمة الماء و الكهرباء و غير ذلك.
لقد رافقت سياسة التعقيم الكثير من انتهاكات حقوق الانسان، إذ كان هناك الكثير من الحالات التي أجبر فيها الناس على التعقيم قسرا، كما كانت الطبقات المستهدفة هم الفقراء و المهمشين فيما كان الاغنياء معفيين من ذلك، و قد جرى قمع كل الاصوات التي كانت تعارض سياسة التعقيم لكونها تتنافى مع القيم الانسانية.
مازالت سياسة التعقيم حاضرة في الهند إلى اليوم لكن بشكل أقل حدة مما كانت عليه في عهد انديرا غاندي، و مازالت الكثير من النساء يقدمن طوعا على إجراء التعقيم مقابل المال.
نتائج كثرة السكان
لقد اصبحت الهند اليوم أكثر دول العالم سكنا بعدما أزاحت الصين من المقدمة لكن هل هذا الكم الهائل من السكان يعتبر نقمة أم نعمة للهند؟
يمكن للسكان أن يتحولوا إلى ثروة مثلها مثل الثروات الطبيعية إذا ما تم استثمارهم و ذلك بتحسين مستوى تعليمهم، و ربط التعليم بسوق الشغل، و تمكينهم من الحصول على الخدمات الطبية، أن ذاك فإن السكان يصبحون قوة تدفع بعجلة التنمية إلى الامام.
اليوم أزيد من نصف سكان الهند هم من الشباب أي الذين هم في سن العمل، و على هذا الاساس فإن الهند لا تعاني اطلاقا من مشكلة نقص اليد العاملة التي تؤرق بال الكثير من دول العالم، و يقدر أنه في كل عام يصبح الملايين من الاشخاص مؤهلين للعمل في الهند بيد أن البلاد لا تستطيع توفير مناصب للشغل لكل هذا العدد و لذلك تنتشر البطالة في الهند بين حاملي الشهادات انتشارا واسعا.
إن الهند لم تستطع لحد الان استغلال كثرة سكانها لصالحها فما زال الكثير من الهنود يعيشون في فقر مدقع. خاصة في الارياف.
المصادر
. DR. PAUL R. Ehrlich. population Bomb reversity press. 1968
Tim Dayson. A Population history of india from the first modern people to the present day. oxford university press. 2018