لقد دلت الاكتشافات الاثرية و النصوص الدينية أن التوحيد كان دين الناس منذ أول الزمان، ثم حدثت الوثنية و انتشرت بينهم فيما بعد، فالوثنية متطفلة طارئة أشبه بالمرض الذي يصيب الجسم، و الناس لم يتركوا التوحيد و ينزلقوا في الوثنية بين ليلة و ضحاها بل حدث ذلك بالتدريج و نتيجة لأسباب متعددة، و هذه الأسباب من الضروري جدا معرفتها، هذه المقالة محاولة للإجابة عن سؤال لماذا انحرف الناس عن التوحيد؟
قبل أن نسرد الأسباب لا بأس ان نفهم معنى الشرك الذي هو نقيض التوحيد.
معنى الشرك
الشرك معناه أن يجعل الانسان لله ندا يدعوه كما يدعو الله، أو يخافه أو يرجوه أو يحبه كحب الله، أو يصرف له نوعا من أنواع العبادة.
و الشرك وصفه الله تعالى بكونه ظلم عظيم لأن فيه تنقيص لله تعالى المتصف بالكمال المطلق، و الظلم هو وضع الشيء في غير محله قال الامام السعدي:
وجه كونه عظيما أنه لا أفظع و لا أبشع ممن سوى الذي لا يملك من الأمر شيئا بمن له الأمر كله، و سوى الناقص الفقير من جميع الوجوه بالرب الكامل الغني من جميع الوجوه، و سوى من لا يملك مثقال ذرة من النعم بالذي ما للخلق من نعمة في دينهم و دنياهم و اخراهم و قلوبهم و أبدانهم إلا منه، و لا يصرف السوء إلا هو فهل أعظم من هذا الظلم شيء.
فالذي يشرك بالله فإنه يصف الله بالنقص قال الله تعالى:
إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون أئفكا آلهة دون الله تريدون
أي فأي ظن بالنقص ظننتم بربكم حتى عبدتم معه غيره.
فالذي يشرك بالله إما أنه يعتقد أن الله تعالى يحتاج لمن يعينه في تسيير شؤون الكون و هذا تنقيص عظيم، أو أنه جل جلاله لا يعلم من أحوال عباده شيئا إلا إذا أخبره الوسطاء من المخلوقات بذلك، و لذلك ينبغي صرف شيء من العبادة لهم ، أو أن يعتقد أن الله لا يغفر و لا يرزق حتى يتدخل الوسطاء بالشفاعة، أو أنه لا يستجيب لدعاء الداعي حتى يقوم الوسطاء بنقل ذلك الدعاء إليه، و قد قاسوا كل ذلك بما ينبغي أن يفعله الشخص عندما يريد أن يتحدث إلى الوجهاء في الدنيا، فإذا كانت له حاجة إلى احدهم توسل بأعوانه و هذا كلام مخالف للمنطق، فذلك الوجيه الذي قد يكون ملكا مثلا لا يعلم حاجات رعيته، و لا يقدر على قضائها وحده، أما الله فهو يعلم السر و أخفى، لذلك فالشرك في كل هذه الأشكال يتضمن تنقيصا لله تعالى و لذلك فهو جل جلاله لا يغفره.
و الان سنتعرف على بعض الأسباب التي أدت إلى انحراف الناس عن عقيدة التوحيد و سقوطهم في براثن الشرك.
الغلو في الصالحين
الغلو هو المبالغة في الشيء و اجتيازه حده الذي وضع له. و بذلك فالغلو في الصالحين يعني المبالغة في تعظيمهم و حبهم و رفعهم فوق منزلتهم.
و يكاد يجمع معظم العلماء أن أول من وقع في الشرك هم قوم نوح و ذلك بسبب غلوهم في الصالحين من قومهم، فيغوث و يعوق و نسرا و ودا و سواع الذين ذكرهم الله تعالى في القران الكريم هي أسماء لأناس صالحين، كان لهم اتباع يقتدون بهم فلما ماتوا قال أصحابهم لو صورناهم و صنعنا لهم تماثيل على هيئتهم كان أشوق لنا إلى العبادة، ثم لما ماتوا و جاء اخرون و طال عليهم الأمد عكفوا على تلك التماثيل فعبدوها.
فالناس أعجبوا بصلاح أولئك الرجال و تقواهم لدرجة أنهم صنعوا لهم التماثيل بعد موتهم بدعوى أن رؤيتها ستشجعهم على العبادة، و رغم أنهم لم يقعوا في الشرك بهذا العمل لأنهم لم يعبدوهم إلا أن هذا من الغلو لأن الذكرى لا ينبغي أن تكون بهذه الطريقة، فلما توالت الأيام و تعاقبت الأجيال و نسي العلم أتاهم الشيطان ليقول لهم إن اجدادكم كانوا يعبدون هذه التماثيل فيسترزقون بها فترزقهم، و يستنصرون بها فتنصرهم، و يستسقون بها فتسقيهم، فعبدوها من دون الله، و من هنا كانت بداية الشرك، و كما ترى فإن معظم النار من مستصغر الشرر، و لذلك ففي الإسلام قاعدة تعرف بسد الذرائع أي قطع كل الطرق المؤدية إلى الفساد، فمنع اتخاذ القبور مساجد أو دفن أحد من الصالحين في مسجد، فحتى إن كان الناس لا يعبدونه فإن سلوك هذا المسلك قد يوصل لعبادته في زمن من الأزمان.
و ما وقع لقوم نوح وقع لشعوب كثيرة و من بينهم العرب قبل الاسلام قال الله تعالى: أفرأيتم اللات والعزى
قيل اللات هو رجل يلت سويق الحجاج، السويق تعني العجين و يلت أي يخلطه بالماء و السمن و غيره بمعنى هو رجل صالح كان يعجن الخبز ليطعم الحجاج فسموه لات، فلما مات عظموه و بالغوا في حبه حتى جعلوه إلها يعبد.
و هذا الغلو وقع فيه النصارى أيضا فهم لما رؤوا عيسى عليه السلام قد ولد بلا أب على غير العادة غلو فيه حتى قالوا إنه ابن الله.
لذلك كان الرسول عليه السلام يدعو الناس إلى أن لا ينزلوه منزلة فوق منزلته، فعن أنس رضي الله عنه قال:
إن ناسا قالوا يا رسول الله يا خيرنا و ابن خيرنا و سيدنا و ابن سيدنا فقال عليه السلام يا ايها الناس قولوا بقولكم و لا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد عبد الله و رسوله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز و جل.
كما كان الرسول عليه السلام يقول:
لا تطروني كما اطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله و رسوله.
قال الرسول صلى الله عليه و سلم أيضا:
أيها الناس لا ترفعوني فوق قدري فإن الله اتخذني عبدا قبل أن يتخذني نبيا. رواه الطبراني
تعليق التمائم من أسباب انحراف الناس عن التوحيد
من بين الأسباب التي قادت الكثير من الناس للوقوع في براثن الشرك هي استخدام التمائم، و تعني التمائم ما يعلقه الانسان على رقبته أو في منزله أو سيارته و غيرها من الأماكن معتقدا بقدرته على جلب الخير و دفع الضر، و هي قد تكون مصنوعة من الجلد، أو من بعض المعادن أو أنياب و عظام حيوانات.
و يعتبر تعليق التمائم من الشرك لأن مستخدمها يعتقد فيها القدرة على القيام بأشياء لا يقدر عليها إلا الله يقول الله تعالى:
وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير
فالله هو كاشف السوء و جالب الخير وحده، فمن اعتقد بقدرة التمائم على فعل شيء من ذلك فقد أشرك.
و قد أنشد أحد الشعراء مظهرا عجز التمائم و أنها مجرد أسباب واهية:
و إذا المنية أنشبت أظفارها
ألفيت كل تميمة لا تنفع
فالإنسان قد يدفع ضرا أصابه بأسباب شرعية كالدعاء مثلا أو الصدقة و غير ذلك مما أثبته الشارع الحكيم، أو بأسباب طبيعية كاستخدام الأدوية و الأعشاب مما تبث علميا تأثيرها مع العلم أن تلك الأسباب مهما عظمت فهي مرتبطة بقدر الله، أما التمائم فليس بينها و بين مجال استخدامها أي علاقة و لا مناسبة لا من قريب و لا من بعيد، إذ فما علاقة تميمة تعلق في الرقبة بدفع مرض مثلا، و كيف يمكن لنعال الفرس أن تجلب الحظ السعيد و الخير الوفير، إن المتعلق بالتمائم حاله يشبه حال الذي يتخذ أوثانا يعبدها من دون الله لا تنفع و لا تضر.
و قد روي أن النبي عليه السلام قد رأى رجلا في يده حلقة من صفر أي حلقة من النحاس، فقال: ما هذه قال: من الواهنة أي المرض قال: انزعها فما تزيدك إلا وهنا فإنك لو مت و هي عليك ما أفلحت أبدا.
و قال عليه السلام :من علق تميمة فقد أشرك.
و عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أقبل اليه رهط فبايع تسعة و أمسك عن واحد.
فقد جاء هؤلاء الرهط للنبي عليه السلام يبايعونه فبايع تسعة منهم و أمسك عن العاشر لم يبايعه عليه السلام فقالوا: يا رسول الله بايعت تسعة و أمسكت عن هذا أي لم تبايعه فقال عليه السلام: إن عليه تميمة.
فلما مزقها بايعه عليه السلام.
فالحقيقة المؤكدة أن التمائم لا تنفع، و أن الذين يستخدمونها ليسوا على الاطلاق افضل و أكثر حظا ممن لا يستخدمونها.
و قد عثر على التمائم في مختلف الحضارات القديمة، و هي مما لا شك فيه أنها كانت من الأسباب التي أدت الى انحراف الكثير من الناس عن التوحيد، ففي الحضارة المصرية مثلا كانت هناك تمائم عدة يتخذ معظمها شكل حيوانات، بعضها يحمي الفرد من المخاطر و بعضها الاخر للإنجاب أو لدفع الشرور، أو لتوفير الحماية من الأمراض، و بالتدريج تحولت تلك التمائم نفسها إلى معبودات.
التطير
التطير يعني التشاؤم من أشخاص أو أماكن أو أحداث معينة، و هو من الأعمال التي كانت شائعة في الجاهلية و لا زالت مستشرية إلى اليوم بين كثير من الناس.فبعضهم إذا أراد السفر فرأى في الطريق رجلا أعور أو ذو عاهة ألغى سفره، و إذا صادف قطا أسودا فذلك يعني نذير شؤم، و آخرون يتطيرون من الرقم 13 حتى تمت ازالته من بعض طوابق العمارات، فإذا كانت الطيرة سببا في ترك الانسان حاجته فقد أشرك.
قال رسول صلى الله عليه و سلم :من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك.
و التطير من الأسباب التي قادت الكثير من البشر للوقوع في الشرك و الانحراف عن التوحيد، و ذلك لأن المتطير يعتقد أن ما تطير منه يتصرف مع الله في تسيير شؤون الكون، و أن بيده الضر و النفع.
يقول ابن القيم رحمه الله:
و أعلم أن من كان معتنيا بالطيرة قائلا بها كانت اليه اسرع من السيل الى منحدره، و تفتحت له ابواب الوساوس فيما يسمعه و يراه و يعطاه، و يفتح له الشيطان فيها من المناسبات البعيدة و القريبة في اللفظ و المعنى ما يفسد عليه دينه و ينكد على عيشه، فإذا سمع سفرجلا أو أهدي إليه تطير به وقال سفر و جلاء، و إذا رأى ياسمينا أو سمع اسمه تطير به و قال يأس و مين أي الكذب، و إذا رأى سوسنة أو سمعها قال سوء يبقى سنة، و إذا خرج من داره فاستقبله أعور و أشل أو صاحب افة تطير به و تشاءم بيومه.
المعاصي من اسباب انحراف الناس عن التوحيد
من الأسباب التي قادت الكثير من الناس للانحراف عن التوحيد هو نقص الايمان كنتيجة لكثرة الوقوع في المعاصي، و ارتكاب المحرمات و التكاسل في العبادات، فالإيمان يزيد بالطاعة و ينقص بالمعصية و يقوى بالعلم و يضعف بالجهل و يخرج بالكفر.
فاليهود مثلا كانوا في الأصل على دين التوحيد ثم بفعل التساهل في المعاصي قست قلوبهم فتجرؤوا على كتاب الله و بدلوا و غيروا حتى انحرفوا عن التوحيد و ما حصل لليهود و النصارى حصل مع الأقوام التي سبقتهم.
فالمعاصي هي بريد الكفر أي رسوله الموصل إليه لأنها قد تؤدي إلى زوال الايمان بالكلية و ذلك إذا ما انكر فاعلها اوامر الله تعالى أو استخف و استهزئ بها.
هذه كانت بعض الأسباب التي أدت الى انحراف الناس عن التوحيد، فليحذر المرء منها حتى لا يقع في الشرك فللهم اجعلنا مسلمين لك و من ذريتنا أمة مسلمة لك إنك سميع قريب مجيب الدعاء.