خضر وفواكه تدوم لمدة اطول و أخرى اصبحت تحتوي على مواد مغذية أكثر، حيوانات أصبحت اكثر انتاجية للحليب و اخرى أسرع نموا و انتاجا للحوم، لقد تحقق معظم ذلك بفضل ما يعرف بالتعديل الوراثي و ذلك عندما استطاع الانسان النفاذ إلى اعماق خلايا الكائنات الحية و تغيرها بشكل لم يحدث من قبل في الطبيعة، و سواء أدركت ذلك أم لم تدركه فإن غدائك يحتوي على الكثير من المنتجات المعدلة وراثيا و التي لن تستطيع تميزها بالذوق، و منذ أن انتشرت هذه الممارسة و الجدال حولها محتدم ما بين مناصر و معارض هذه دعوة لاكتشاف الاغذية المعدلة وراثيا لنتعرف على فوائدها و مساوئها.
ماهو التعديل الوراثي؟
إن لبنة بناء أي كائن حي هي الخلايا فأنت عبارة عن مجموعة من الخلايا تعمل معا بشكل متناسق لتبقى على قيد الحياة، داخل كل خلية توجد نواة و داخل هذه النواة توجد المورثات أو الجينات، إنها اشبه بكتاب ضخم يضم كل التعليمات الازمة لتظهر بالشكل الذي أنت عليه فهناك جينات تحدد لون عينيك، هناك جينات تحدد لون بشرتك و اخرى لون شعرك، و هل هو مجعد أم أملس الى غير ذلك، كل خلايا جسدك تعمل وفق ما ورد في التعليمات و أنت ورثت هذه الجينات من والديك.
في المجموع يمتلك الانسان قرابة 22500 جين و كل صفة فينا هي نتيجة عمل جين أو مجموعة من الجينات.
إن كل الكائنات الحية تعمل خلاياها بنفس النظام الذي في الانسان مع فارق عدد الجينات.
بعد ان اكتشف العلماء الجينات و توصلوا إلى أنها المسؤولة عن ظهور الصفات استطاعوا بعد ذلك الدخول اليها و تعديلها بالشكل الذي يرغبون، و بهذه الطريقة استطاع الانسان زراعة تفاح لا يصبح لونه بنيا بعد تقشيره و طماطم تدوم لمدة أطول في رفوف المتاجر.
إن الهدف من التعديل الوراثي هو اكساب الكائن الحي خصائص معينة أو التخلص من بعضها.
متى بدأ التعديل الوراثي؟
قبل أن يتوصل الانسان إلى التعديل الوراثي فقد كان يمارس منذ القدم عملية التهجين، أي يقوم بتزويج فردين قريبين من الناحية الوراثية لإنتاج خلف يمتلك صفة مرغوبة، فمثلا في عالم الحيوان فإن البغل هو حيوان هجين ناتج عن تزاوج كل من ذكر الحمار و انثى الحصان لتكون المحصلة حيوان البغل الذي يمتلك صبر الحمار و قوة الحصان، كما أنه بفضل عملية التهجين استطاع الانسان تحسين الخضر و الفواكه لتصبح بالشكل الذي عليه اليوم، فللموز سلالات كثيرة تنمو في الطبيعة لكن المزارعين قاموا بعدة عمليات تزاوج بينها للحصول على موز ذو مذاق لذيذ و بدون بذور.
إن عملية التهجين مارسها الانسان منذ ان اكتشف الزراعة كما أنه من الممكن أن تحدث بشكل طبيعي دون تدخل الانسان، فمثلا نتج عن تزاوج الكلاب و الذئاب ظهور الكلاب الذئبية في اوروبا.
لكن التعديل الوراثي لا يمكنه أن يحدث إلا تحت اشراف الإنسان و لا يمكن ان يتحقق في الطبيعة لأنه يتضمن نقل جين أو جينات من كائن لأخر لا تجمع بينهما أي صفة قرابة.
يمكن أن نقول أن أول من وضع اسس علم التعديل الوراثي هو العالم البيولوجي غريغوري مندل الذي كشف النقاب عن كيفية انتقال الصفات من الاباء إلى الابناء، ووضع قوانين مندل في الوراثة، ثم تطور هذا العلم اكثر مع اكتشاف الجينات التي هي المسؤولة عن ظهور الصفات في الكائن الحي، ثم تلا ذلك التوصل إلى تعديل تلك الجينات للحصول على صفات مرغوبة و بذلك أصبحت امام الانسان خيارات واسعة من أجل تحسين محاصيله و أصبح بإمكانه تجاوز جدار النوع الذي كان يكبح عملية التهجين. النوع حسب تعريف البيولوجين هم الافراد الذين يمتلكون خصائص متشابهة و يتزاوجون فقط فيما بينهم او الذين ان تزاوجوا مع افراد اخرين انجبوا نسلا عقيما.
فمثلا في الطبيعة من الممكن أن تتزاوج زهور مع زهور اخرى قريبة لها من الناحية الوراثية لكن لا يمكن مثلا أن تتزاوج زهرة مع الطماطم أو البطاطس بيد أن التعديل الوراثي أتاح امكانية حدوث ذلك، فمثلا قد يؤتى بجينات مسؤولة عن تحمل البرودة في نوع من الاسماك و يتم ادخالها في الطماطم لتكتسب هذه الصفة.
الوجه المضيء للتعديل الوراثي
مما لاشك فيه أن التعديل الوراثي قد قدم خدمات جليلة للبشرية فبفضله ظهرت محاصيل ما كانت لتظهر لو اقتصرنا على التهجين التقليدي.
إن التهجين التقليدي الذي مارسه الانسان منذ القدم قد حقق نجاحات باهرة، إلا أنه كان يستغرق زمنا طويلا من أجل الحصول على الصفات المرغوبة في كائن معين، فلما جاء التعديل الوراثي وفر الجهد و الوقت فكل ما يلزم هو تحديد الجين المسؤول عن صفة معينة في الكائن أ ثم نقله إلى خلايا الكائن الحي ب لتظهر فيه تلك الصفة، و بهذه الطريقة تحققت إنجازات كبيرة في هذا المضمار نذكر منها على سبيل المثال
الحصول على نباتات مقاومة للآفات
تتسبب الحشرات و الفطريات في إلحاق خسائر فادحة بالمحاصيل و لذلك يلجأ المزارعون لرش حقولهم بمبيدات الافات للتخلص من شرها، إلا أن هذه المبيدات تحمل هي الاخرى مخاطر عدة فالملايين من المزارعين يصابون بالتسمم سنويا بسبب تعاملهم المباشر مع المبيدات، قدم التعديل الوراثي حلا ممتازا فقد فكر العلماء في ادخال جين معين للمحاصيل يكون مقاوم للحشرات و الفطريات و بذلك لن تكون هناك حاجة لاستخدام المبيدات بشكل مكثف، حدث هذا مثلا مع القطن فلقد اهتدى العلماء إلى نوع من البكتيريا يمتلك جينا ينتج سما يهلك الحشرات فتم إقحامه في جينات نبات القطن لتكون النتيجة هي الحصول على قطن مقاوم للآفات يعرف بالقطن Bt حاليا يمثل %90 من القطن المنتج في الهند.
الحصول على نباتات مقاومة للمبيدات
عادة ما يعمد المزارعون إلى رش حقولهم بمبيدات الاعشاب من أجل التخلص من الاعشاب الضارة التي تنافس المحصول في الماء و الغذاء و الشمس فتؤثر في كميته و نوعيته، لكن هذه المبيدات و إن كانت تقتل الاعشاب الضارة فإنها قد تؤثر في المحصول أيضا، أتى التعديل الوراثي بحل لهذه المشكلة و ذلك بإدخال جين مقاوم للمبيدات في المحاصيل و بذلك لم تعد تتأثر بالمبيدات بل تقضي هذه الاخيرة على الأعشاب الضارة فقط.
انتاج محاصيل تدوم مدة أطول
للكثير من المحاصيل أمد حياة قصير إذ بسرعة تنضج ثم تفسد كما هو الأمر مع الطماطم، من أجل حل هذه المشكلة تم تحديد الجينات المسئولة عن جعل الطماطم لينة لأن الذي يتسبب في تعفن الثمرة و فسادها هو تلين قشرتها، بعد ذلك تم تعطيل مفعول هذه الجينات فيما لم يتم المساس بالتغيرات الأخرى المتعلقة بالنضج كالطعم و اللون فكانت المحصلة هي طماطم تنضج لكن لا تصبح لينة، و بالتالي لا تفسد و بإمكانها البقاء فوق رفوف المتاجر مدة أطول من الطماطم العادية.
رفع المحتوى الغذائي للمحاصيل
تتميز البطاطس مثلا باحتوائها على نسبة لا بأس بها من النشويات التي هي عبارة عن سكريات يحللها الجسم ليستمد منها الطاقة. بفضل التعديل الوراثي تمكن العلماء من رفع محتوى النشا في البطاطس، و يتضمن ذلك أيضا فائدة صحية أخرى و هي أنه عند ارتفاع نسبة النشا ستقل نسبة الماء و من المعلوم أنه عند قلي البطاطس فإن الماء الذي بداخلها يتبخر بفعل الحرارة و يحل محله الزيت، لذلك فإن البطاطس المعدلة وراثيا لن تمتص الكثير من الزيت و هذا مفيد من الناحية الصحية.
أيضا مكن التعديل الوراثي من رفع القيمة الغذائية لمحاصيل رئيسية يعتمد عليها الملايين حول العالم كما الحال مع الارز الذي هو الغذاء الاساسي للكثير من شعوب العالم الثالث، يعاني الكثير من الناس في هذه المناطق من مشاكل صحية كضعف الرؤية العمى الليلي و خلل النمو و ذلك بسبب نقص مادة البيتا كاروتين في غذائهم، البيتا كاروتين مادة توجد في الجزر و المشمش و المانجا و هي المسئولة عن اللون البرتقالي، بمجرد دخول البيتا كاروتين للجسم فإنه يتحول إلى الفيتامين أ الذي له علاقة وطيدة بصحة الإبصار.
كان الحل هو إدخال جينات في الارز تحتوي على البيتا كاروتين و سمي بالأرز الذهبي، بفضله قلت المشاكل الصحية للعين المرتبطة بضعف الفيتامين أ.
يظهر من كل هذه الامثلة أن التعديل الوراثي قد قدم بالفعل حلولا كثيرة للبشرية، و أن فوائده الأنية واضحة لا غبار عليها، لكن ماذا عن الغد ما الذي يمكن أن ينتج عن زراعة و استهلاك الاغذية المعدلة وراثيا على المدى البعيد هل يمكن أن تتسبب في اعراض جانبية غير متوقعة هل يمكن أن تضر بالبيئة ذلك هو الذي يثير مخاوف الكثيرين لدرجة أن بعض الدول ترفض دخول المحاصيل المعدلة وراثيا إلى أسواقها.
الوجه المظلم للاغذية المعدلة وراثيا
المخاوف البيئية
يساور الكثيرون القلق اتجاه الأغذية المعدلة وراثيا، فهناك تخوف من أن يتحول النبات المعدل وراثيا إلى نبات مضر بالمحاصيل الأخرى، فتصور مثلا أن نباتا تم تعديله ليقاوم مبيدات الافات ثم استطاع الوصول بطريقة ما الى حقول محاصيل اخرى فقد يتكاثر بشكل غير متحكم فيه ليصبح عبارة عن حشائش ضارة، و الكارثة الكبرى أن استخدام المبيدات لن يفلح معه مادام أنه يمتلك جينات تقاومها. قد يحدث ذلك أيضا مع نبات معدل وراثي مقاوم للحشرات، فقد ينمو بطريقة غير متحكم فيها إذا انتقل إلى البرية نظرا لمقاومته لأعدائه الطبيعيين.من أجل ذلك هناك دعوة ملحة لأن تكون النباتات المعدلة تقاوم نوعا واحدا من المبيدات أو الحشرات.
هناك تخوف اخر يكمن في امكانية حدوث تزاوج بين نباتات المعدلة وراثيا مع أقاربها البرية، فينتج عن ذلك نسل لا أحد يمكن التنبؤ بتصرفه في الطبيعة، فقد يكون قويا كفاية لدرجة تجعله يغزو حقول المحاصيل الاخرى و يدمرها.
رغم أن الاماكن المخصصة لإنتاج النباتات المعدلة وراثيا تكون خاضعة لمراقبة صارمة بحيث تكون بعيدة عن الحقول و محمية إلا أن ذلك لا يمنع من تفاعل هذه النباتات مع أقاربها في الحقول و لو بنسبة ضئيلة.
إن الاشكالية تكمن أن الانسان لم يصل بعد إلى فهم عمل الجينات فهما تاما و بالتالي فلا احد يستطيع تحديد النتائج المترتبة عن التغيير الجبيني، إن النباتات المعدلة وراثيا لم تنشأ في الطبيعة و لم يخلقها الخالق على تلك الشاكلة و بالتالي فلا أحد يمكنه التنبؤ بكيفية تصرفها إذا انتقلت للبرية، و رغم كل الاحتياطات التي تتخذ لمنع حدوث ذلك إلا أنه لا توجد أماكن محمية مائة في المائة، لذلك لا ينبغي لنا أن نسأل هل سوف تتفاعل النباتات المعدلة مع نباتات اخرى طبيعية بل الأحرى أن نسأل ما الذي سوف ينتج عن ذلك.
مخاطر صحية محتملة للغذية المعدلة وراثيا
يمتلك بعض الناس حساسية عند تناولهم لبعض الأغذية فهناك من يعاني من الحساسية عند اكله للفراولة أو المكسرات أو السمك، تقريبا 9 من البالغين مصابين بالحساسية اتجاه بعض الأطعمة فإذا ما تم نقل جينات من نباتات تسبب الحساسية للبعض إلى نباتات اخرى لا تسببها فقد تكتسب هذه الاخيرة القدرة على إصابة من يتناولها بالحساسية أيضا.
لقد حدث هذا مثلا عندما تم نقل بعض جينات جوز البرازيل الذي يعاني بعض الناس من الحساسية عند اكله إلى فول الصويا، فأصبح من لهم حساسية اتجاه جوز البرازيل تظهر عليهم أيضا عند اكلهم لفول الصويا.
لذلك يمنع نظريا نقل الجينات من كائنات مسببة للحساسية الى كائنات اخرى.
هناك خبراء ربطوا تناول الاطعمة المعدلة وراثيا بأمراض السرطان لكن لا توجد دلائل قاطعة على ذلك.
إن التعديل الوراثي ممارسة حديثة العهد، و ليس لدى أحد فكرة واضحة عن مدى تأثيره على صحة الانسان و بيئته على المدى المتوسط و البعيد، و منذ بدء ظهور أول منتج معدل وراثي في الاسواق و هو الطماطم سنة 1994 و الاراء حوله متضاربة، بيد أنه حتى إن كنت من معارضي التعديل الوراثي فأنت على الارجح قد تناولت منتجاته من حيث لا تعلم ذلك أن الاحصائيات تؤكد %94 من الصويا المنتج في العالم معدل وراثي %96 ايضا بالنسبة للقطن %92 للذرة و ذلك سنة 2020
في ظل وجود مخاطر صحية و بيئية محتملة فإن أفضل الحلول هو أن تفرض الدول على الشركات المنتجة لمواد معدلة وراثيا أن تشير الى ذلك في منتجاتها ثم يبقى للمستهلك بعد ذلك واسع الاختيار في استهلاكها او تركها. أما اقحامها وسط المنتجات الطبيعية ففي هذا اجحاف في حق المستهلك في معرفة أصل المحاصيل التي يتناولها.
هناك رغبة جامحة من أجل توفير ما يكفي من الغذاء و جعله في متناول أكبر شريحة من الناس، لقد أتاح التعديل الوراثي امكانية تحقيق ذلك بيد أن هذه التكنولوجيا لا زالت في مهدها، و لم يصل العلماء بعد إلى انتاج منتجات لا يمكن التشكيك في جودتها، و في المقابل هناك الكثير من الطرق التقليدية في الزراعة من الممكن أن تكون حلا افضل و اكثر امنا لمشكلة نقص الغذاء.