هذه قصة رحلة ملحمية بطلها كائن وديع يجوب محيطات العالم، إنه السلحفاة البحرية الملقبة برحالة المحيط، فهي تقطع الآلاف الكيلومترات بحثا عن غذائها لكن ذلك ليس هو المثير في هذه الكائنات، بل تكمن الغرابة كل الغرابة في عودة إناثها بعد التزاوج إلى نفس الشاطئ الذي ولدت فيه، فبدون أن يكون لديها أي أداة لتحديد الاتجاهات، فإنها تعود لمسقط رأسها بدقة يحسدها عليها أمهر البحارة، في هذه المقالة سوف نقتحم عالم السلاحف البحرية، لنتعرف على حياتها التي ظلت إلى الأمس القريب سرا مخفيا.
أنواع السلاحف البحرية
توجد سبعة أنواع من السلاحف البحرية تعيش في مختلف بحار و محيطات العالم، لكن النوع الذي ستتحدث عنه هو السلحفاة الكبيرة الرأس التي تعيش في المحيط الاطلنتي، و تأتي لتضع بيضها في شواطئ فلوريدا بالولايات المتحدة، السلاحف بشكل عام كائنات ضاربة في القدم، فهي أقدم من الديناصورات فما بالك بالإنسان، و السلاحف البحرية تشبه السلاحف البرية فهي أيضا تتنفس الأوكسجين في الهواء، لذلك تصعد بين الفينة و الأخرى للسطح من أجل التنفس، أحد أبرز أوجه الاختلاف بينهما هو أن السلحفاة البحرية لا تستطيع إدخال رأسها في قوقعتها. قد تعيش السلاحف البحرية ل 60 سنة.
وضع البيض و بداية الرحلة
في أحد شواطئ فلوريدا، و في ظلمة الليل تخرج السلاحف البحرية بأعداد هائلة من مياه البحر، و تتقدم بخطى بطيئة لكن ثابتة صوب اليابسة، إنها كثيرة العدد لدرجة أن منظرها يثير الرهبة، كل سلحفاة من هذه السلاحف قد أتت من مكان ما من المحيط الشاسع، فهي لا تعيش في مجموعات، و لكنهم اجتمعوا في نفس الزمان و المكان دون أن يحددوا موعدا مسبقا لذلك.
تشرع كل سلحفاة في حفر حفرة في الرمال لتضع بيضها داخلها، قد يصل عدد البيض ل 100 بيضة أو أكثر، ثم تطمرها بالرمال و تسويها حتى لا يلحظ أحد وجودها، ثم تعود السلاحف إلى المحيط من حيث أتت.
خطة السلاحف البحرية في إخفاء البيض لا تنجح دائما، خصوصا مع كائنات تتمتع بحاسة شم قوية كالكلاب مثلا، فتلتهم بعضها، و بعد مضي بضع أسابيع و في عتمة الليل تدب الحركة في الحفر، يفقس البيض لتخرج منه السلاحف الصغيرة، إنه لمشهد بيئي خلاب أن ترى الحفر و هي تغلي بوجود مئات السلاحف كلها تكافح للخروج إلى السطح، ثم تتجه بشكل غريزي صوب مياه البحر لأنها تعلم أن اليابسة ليست موطنها.
جنس السلاحف البحرية
ما الذي يحدد جنس السلاحف البحرية؟ هل تضع السلحفاة نوعين من البيض ذكر و أنثى؟ في الحقيقة درجة الحرارة هي من يحدد ذلك، فإذا كانت الحرارة بداخل الحفرة أعلى من 29 درجة، جاءت السلاحف في الغالب إناثا و إذا كانت أقل من ذلك أتت في معظمها ذكورا.
السلاحف البحرية الصغيرة و كفاح البقاء
عندما تخرج السلاحف من البيض فإن مياه البحر لا تبعد عنها إلا ببضع أمتار، لكن هذه الرحلة القصيرة تبدو شاقة و محفوفة بالمخاطر بالنسبة لها، بل هي رحلة مصيرية، فهناك حيوانات كثيرة تنتظر لحظة خروج السلاحف بفارغ الصبر، كسرطان البحر و طيور البحر و حيوان الراكون لكي تشبع جوعها، لكن و بحكم أن الحفرة الواحدة قد تحتوي على أزيد من 100 سلحفاة، و بوجود عدد هائل من الحفر فهناك على الأقل مليون سلحفاة، و مهما بلغت الخسائر فستصل نسبة مهمة منها إلى بحر النجاة.
وسط البحر و بداية الترحال
ها قد وصلت أعداد غفيرة من السلاحف البحرية إلى البحر بعدما اجتازت تلك الرحلة الشاقة التي هلك فيها من هلك، لكن وصول السلاحف الصغيرة إلى الماء لا يعني انتهاء مسلسل الخطر، فهناك ستجد في انتظارها الأسماك الكبيرة أو قد تتخطفها الطيور البحرية، لذلك فهي ستستمر في السباحة دون توقف لمدة 30 ساعة بحثا عن مكان يتوفر فيه الغداء و المأوى.
يوجد في مياه الاطلنتي شرق فلوريدا أعشاب بحرية تنمو بكثرة، تشكل ملجأ مثاليا للكائنات البحرية، فتأتي السلاحف البحرية لتستوطنها، لكن بعد مدة من الزمن تجد هذه السلاحف نفسها و هي تبتعد أكثر فأكثر عن مسقط رأسها، إذ سرعان ما سيأخذها معه تيار بحري مشهور يمر بالمحيط الاطلنتي و هو تيار الخليج الدافئ.
تيار الخليج هو تيار بحري ينطلق من سواحل الكاريبي و يتجه صوب أوروبا الغربية، و هو تيار قوي لدرجة أن السفن التجارية المتجهة من أمريكا إلى أوروبا، كانت تصل في مدة زمنية اقصر من تلك المبحرة في الاتجاه المعاكس، يمنح هذا التيار الدفء لشواطئ أوروبا الغربية، و ينقل معه الكثير من الكائنات الحية من بينها السلاحف البحرية، التي تظهر في شواطئ أوروبا الغربية بعيدة بالآلاف الكيلومترات عن مسقط رأسها.
لقد ظلت باقي حلقات حياة السلاحف البحرية بعد هذه المرحلة بالذات مجهولة، حتى سميت بسنوات الضياع، فلا أحد كان يعلم على وجه التحديد أين تذهب السلاحف و لا أين تعيش بعد ذلك، الآن مع تقنية التتبع بواسطة الأقمار الاصطناعية، أصبح بالإمكان معرفة الكثير عن تحركات هذه السلاحف.
يتم تثبيت جهاز التتبع على ظهر السلحفاة البحرية، و هو من الصغر و الخفة بحيث لا يؤثر على حركيتها، و تتجلى مهمته في إرسال إشارات للقمر الاصطناعي و هذا الأخير يرسل بدوره المعلومات إلى حواسيب العلماء في الأرض، تتضمن المعلومات المرسلة سرعة التحرك، مكان التواجد، العمق و غيرها من المعلومات القيمة.
السلاحف البحرية رحالة المحيط
لقد تبين للعلماء انطلاقا من ذلك أن السلاحف البحرية تمضي معظم حياتها في رحلات طويلة، حتى استحقت عن جدارة لقب رحالة المحيط، ثم عندما تصل إلى مرحلة النضج الجنسي ما بين 20 إلى 30 سنة، تقوم برحلة هي الأغرب من نوعها في عالم الحيوان، فأين ما كانت أنثى السلحفاة البحرية الكبيرة الرأس، فإنها و بمجرد انتهاء عملية التزاوج تشد الرحال في سفر طويل قد يمتد لآلاف الكيلومترات، وجهتها هي شواطئ فلوريدا أي إلى نفس المكان الذي ولدت فيه، فتضع بيضها هناك، لا أحد يعلم على وجه التحديد كيف تفعل السلاحف البحرية ذلك، كيف تحدد مسار هذه الرحلة بكل هذه الدقة، علاوة على ذلك و بما أن كل سلحفاة بحرية تعيش بمفردها، فمن أرسل لها الدعوة لتتوافد بالألوف المؤلفة إلى نفس الشاطئ و في نفس الفترة ما بين ماي و أكتوبر، هذه أسئلة لم يجد لها العلماء جوابا شافيا.
هناك أماكن محدودة في العالم حيث تأتي السلاحف البحرية لتضع بيضها، فالسلحفاة البحرية الكبيرة الرأس التي تعيش في المحيط الاطلنتي تبيض في سواحل فلوريدا، أما تلك التي تعيش في المحيط الهندي فتبيض في شواطئ سلطنة عمان، و ثالث مركز للتبييض هو اليابان بالنسبة للسلاحف البحرية التي تعيش في المحيط الهادي.
السلاحف البحرية تحت خطر الانقراض
اليوم تندرج الكثير من أنواع السلاحف البحرية ضمن قائمة الحيوانات المهددة بالانقراض، و أنواع أخرى مهددة بخطر انقراض أقصى، و السبب في ذلك تلوت البيئة البحرية، فكل عام يتم إلقاء ملايين الأطنان من النفايات البلاستيكية في البحار و المحيطات بشكل مباشر أو غير مباشر، و هذه النفايات هي أحد أهم أسباب هلاك هذه الكائنات.
لم يكن ينظر إلى النفايات البلاستيكية على أنها تشكل تهديدا للبيئة، حتى تبين فيما بعد أن البلاستيك لا يتحلل، و إنما يجد طريقه بشكل أو بأخر إلى مياه البحر ليتجمع هناك بكميات هائلة، لدرجة أنه تم اكتشاف أكبر تجمع للنفايات البلاستيكية في العالم و ذلك في شمال المحيط الهادي، الأمر يتعلق ببقعة شاسعة المساحة، تمتد لآلاف الكيلومترات المربعة، تحتوي على كمية كبيرة من جزيئات البلاستيك تطفو على السطح، مما اعتبر كارثة بيئية على جميع المقاييس، لقد كانت السلاحف البحرية أحد أكبر ضحايا هذه النفايات، إذ تقوم أحيانا بأكل الأكياس البلاستيكية ظنا منها أنها قناديل البحر، أحد أفضل وجباتها، فيموت الكثير منها جراء ذلك،هناك دراسة تقول أن% 52 من السلاحف البحرية تتناول المخلفات البلاستيكية فما الذي قد يتسبب فيه ذلك؟
القطع البلاستيكية يمكنها أن تؤدي الأعضاء الداخلية، و الأكياس البلاستيكية التي تتناولها السلاحف خطأ يمكنها أن تتسبب في انسداد الأمعاء، مما يجعل السلحفاة غير قادرة على الأكل، فتموت على إثر ذلك.
ثم هناك خطر أخر ساهم في نفوق السلاحف البحرية، سببه التلوث أيضا، يتعلق الأمر بالشباك الشبح، و هي شباك صيد مهجورة تستقر في قاع المحيط، قد تعلق السلاحف فيها فتهلك و هي تحاول تحرير نفسها.
السلاحف البحرية كائنات ضاربة في القدم، عاصرت كائنات عديدة بعضها انقرض و بعضها لا يزال حيا يرزق، لكن وجودها اليوم أصبح مهددا بسبب التلوث الذي أحدثه البشر، فهل ستنجو السلاحف من خطر الانقراض؟
المصادر
Joao Pinto da Costa. Teresa Rocha Santos. Armando C Duarte. The environnemental impacts of plastics and micro plastics use waste and pollution EU and national measures. European union 2020