دماغنا الذي لا يتعدى وزنه عند إنسان بالغ 1.4 كيلوغرام لا يزال يشكل معجزة تتحدى فهم العلماء، فمازلنا عاجزين عن فهم الكثير من الأمور التي تجري في دماغنا و ما الأحلام إلا واحدة منها. لقد حظيت الاحلام باهتمام الانسان منذ القدم، ووجد على مدار التاريخ أناس حاولوا إيجاد تأويل لها لاعتقادهم أنها تتضمن معاني معينة، و لا عجب في أن تحظى الأحلام بهذه المكانة فلو افترضنا أن إنسانا عاش 60 سنة فسيكون قد قضى تقريبا 20 سنة في النوم منها 8 سنوات في عالم الأحلام.
الأحلام عالم غريب تتفتح أبوابه بمجرد ما نستسلم للنوم، قد تكون هذه الأحلام مجرد أضغاث ليس لها معنى، و قد تأخذ أحيانا شكل كوابيس مرعبة، و في أحيان أخرى قد تتضمن ارشادات و تلميحات معينة، فالأحلام ترشد، تعلم و تنذر، سواء أحببناها أم كرهناها فالأحلام أمر حتمي على بني ادم، فالجميع يحلم دون استثناء و الاختلاف يكمن فقط في هل سنتذكر ما حلمنا به أم لا، فالعلماء يؤكدون أن الإنسان يحلم من 3 إلى 6 مرات في الليلة الواحدة و أن كل حلم يدوم من 5 إلى 10 دقائق. رغم أنه يخيل الينا أنه قد استغرق مدة أطول.
لماذا نحلم؟
يمكننا أن نعرف الأحلام على أنها مجموعة من القصص و الصور التي يخلقها دماغنا و نحن نيام و لعل كل منا قد تساءل ذات مرة لماذا نحلم؟ هل تؤدي الأحلام وظيفة معينة؟
يعتبر البعض الاحلام بمثابة بوابة لاكتشاف شخصية الانسان الحقيقة تحت شعار أخبرنا بأحلامك نكشف لك عن شخصيتك، لقد كان الفيلسوف النمساوي سيغموند فرويد من اكثر الذين اعتمدوا على الأحلام في التحليل النفسي، فهو يرى أنه عن طريق الأحلام يمكننا أن نفهم شخصية الانسان فهما دقيقا و أن تتجلى لنا صورته الحقيقية غير تلك التي يحاول إظهارها للناس لأن تمت رغبات كثيرة يتم كبتها في اليقظة بسبب كونها محرمة أو غير قانونية فتجد متنفسا لها في عالم الأحلام، و قد تظهر بشكل صريح أو مقنع، يعني هذا أن الأحلام تكشف عن رغباتنا الدفينة و عن نوايانا الحقيقية و كل الامال الغير متحققة، لذلك كان فرويد يحث مرضاه على أن يقصوا عليه أحلامهم كاملة و بفك رموزها تتكشف له الرغبات الحقيقية الكامنة في أعماقهم.
فيما هناك من يرى أن الأحلام ما هي إلا انعكاس للأحداث و للمواقف التي تعرضنا لها خلال النهار، أي أن منشأها هو واقع الحياة و هي تحدث نظرا لأن دماغنا يقوم خلال النوم بتثبيت المعلومات التي اكتسبها خلال اليقظة، بمعنى أن الاحلام ما هي إلا نتيجة لنشاط عقلي و لا تحمل أي رسائل او معاني معينة. و علماء الأعصاب هم الذين يتبنون هذا التفسير.
و هناك اخرون يرون أن الاحلام قد تتضمن أحيانا رسائل خاصة و تنبؤات بالمستقبل، و يتطلب الأمر فقط فك رموزها لتتجلى بوضوح و يستدلون على ذلك بأحداث تاريخية.
و الذي يبدو أقرب للصواب هو أن الأحلام في الواقع هي خليط من هذا و ذاك، فبعض الأحلام تعبر حقا عن رغبات مدفونة غير متحققة على أرض الواقع كما أخبر بذلك فرويد، و هناك أحلام ليست سوى إعادة صياغة للأحداث اليومية فيما هناك حقا أحلام تتضمن اشارات و معاني.
أحلام تضمنت معاني
فالحقيقة المؤكدة أن الكثير من الأحداث التاريخية و الأفكار العظيمة و الابتكارات العلمية كانت وليدة أحلام و سنبدأ بحلم كان سببا في انقاد امة بأكملها من شبح المجاعة و هو حلم ملك مصر في عهد نبي الله يوسف عليه السلام، فقد رأى ملك مصر في منامه سبع بقرات سمان تأكلهن سبع بقرات هزال و سبع سنابل قمح خضراء و سبع أخرى جافة يابسة فتعجب الملك لأمر هذه الرؤيا و سأل عنها حاشيته و المحيطين به من أولي العلم فاخبروه بأنها مجرد أضغاث لا معنى لها، عند داك تذكر الفتى الذي كان مع يوسف في السجن و خرج منه أمر يوسف و قدرته على تفسير الأحلام فذكر ذلك للملك و ذهب الفتى إلى يوسف و هو لا يزال في السجن و فسر يوسف الرؤيا بأنهم يزرعون سبع سنين دأبا أي سيأتيهم المطر سبع سنين متواليات فيكثر الغداء، ثم أرشدهم إلى ما ينبغي فعله في هذه السنين الخصبة {فما حصدتم فذروه في سنبله} أي اتركوه في سنبله حتى لا يفسد {إلا قليلا مما تأكلون} أي دبروا أكلكم في هذه السنين الخصبة و لا تسرفوا و ليكثر ما تذخرون حتى تنتفعوا به في السبع سنين الجافة التي ستلي السبع المخصبات ثم بشرهم بأنه بعد تلك السبع الشداد سيأتي عام فيه يغاث الناس فيكثر المطر و تكتر الغلات و تزيد على أقواتهم حتى أنهم يعصرون العنب و نحوه زيادة على أكلهم، إنها رؤية كان لها الفضل الأعظم في نجاة امة بكاملها من المجاعة فقد نباتهم بما سيحصل في المستقبل فاستعدوا له الاستعداد الأمثل.
و هناك من رأى مصيره في الحلم قبل أن يتحقق على أرض الواقع كما حدث مع الرئيس السادس عشر للولايات المتحدة الأمريكية أبراهام لينكون في القرن 19. فقبل أن يتم اغتياله بأيام في 14 ابريل سنة 1865 قص لنكون على زمرة من أصدقائه حلما غريبا، فقد رأى في منامه أنه دخل غرفة في البيت الأبيض ليجد جثة مغطاة يحيط بها الجنود و رهط من المشيعين، فلما دنا من أحد الجنود و سأله عن الميت أجابه الجندي إنه رئيس الولايات المتحدة، لم تمضي إلا أيام قلائل حتى تم اغتيال الرئيس و هو يشاهد عرضا مسرحيا.
ثم هناك أحلام أسفرت عن انجازات و ابتكارات غيرت مسار البشرية، منها حلم ديمتري ميندليف و هو كيميائي روسي ولد سنة 1834 كان مهتما اشد الاهتمام بدراسة العناصر الكيمائية و كانت تشغل باله فكرة عرض كل تلك العناصر المكتشفة بشكل مبسط بحيث يستطيع أي كان قرأتها و فهمها، جرب ديمتري طرقا متعددة لكن دون جدوى حتى جاءه الحل في حلم، يقول ديمتري: رأيت في المنام جدولا حيث كل العناصر الكيمائية قد وضعت في مكانها المناسب و بمجرد ما استيقظت تناولت ورقة و قلما و دونت ما رأيت. بفضل هذا الحلم استطاع ديمتري أن يضع الجدول الدوري للعناصر الذي ما زال يعتمد عليه حتى اليوم.
لماذا ننسى الكثير من الأحلام ؟
إن الأحلام أمر لا مفر منه فكلنا يحلم، إلا أن% 95 من الأحلام ننساها بمجرد ما نستيقظ فالحقيقة المؤكدة أن الأحلام تنسى بسرعة كبيرة، و حتى عندما يحاول المرء جاهدا استرجاع حلمه فإنه في الغالب لا يتحصل إلا على شتات و شظايا و هكذا تضييع علينا الكثير من التفاصيل التي لو وجدت لبدا الحلم مفهوما نوعا ما، و يعتقد أن سبب ذلك هو كون ذاكرتنا غير مصممة لحفظ الأحلام، و في ذلك منفعة عظيمة فلو كان الأمر على خلاف ذلك لاختلطت علينا الذكريات و لما ميزنا بين تلك التي وقعت في المنام و تلك التي عشناها في اليقظة، إلا أن هناك نسبة من الأحلام نتذكرها جيدا بعد الاستيقاظ، و الذين ينامون نوما متقطعا خلال الليل فرصتهم في تذكر أحلامهم اكبر من أولئك الذين ينامون نوما متصلا و لا يستيقظون حتى الصباح.
على هذا الأساس فإن بعض الأحلام يحمل أفكارا و ارشادات و هذا الذي جعل الناس منذ القدم يولونها اهتماما بالغا.
لماذا عالم الاحلام مليء بالرموز ؟
إن السؤال الذي يطرح نفسه هو إذا كانت بعض الأحلام تتضمن حقا معاني فلماذا لا تكشف عن نفسها بشكل صريح؟ لماذا تظهر غالبا على هيئة رموز بحيث تتطلب تأويلا لفهمها؟
في الواقع لا أحد يعرف بالضبط لماذا يحدث ذلك، و قد ادعى فرويد أن الاحلام تلجأ الى الرموز لتخفي الأغراض التي يحظرها المجتمع و لكنه قد بالغ في إعطاء كل الاشياء التي تظهر في الاحلام معاني جنسية. فالحلم عند فرويد هو ظاهرة نفسية هدفها تحقيق الرغبات الجنسية بالخصوص و التنكر في الحلم ناتج عن القمع الذي تتعرض له تلك الرغبات.
يشبه علماء اخرون أسلوب التنكر في الاحلام بما يفعله الشعراء مثلا الذين يعتمدون على التشبيه و الاستعارة لإيصال معاني معينة، فمثلا يقول الشاعر العباسي دعبل الخزاعي:
هو البحر من أي النواحي اتيته
فلجته المعروف و الجود ساحله
فهذا الشاعر في الحقيقة لا يصف البحر و إنما يمدح كرم و جود الملك العباسي و على مثل هذا تقوم الأحلام. فالشيء المجرد يترجم في الحلم الى شيء ملموس. فمثلا قد تعبر السرعة بالقطار و السلم بالحمامة و هذا يشبه الى حد بعيد الكتابة في اللغات القديمة التي كان يتم التعبير فيها عن الافكار باشياء مجسمة.
عالم الأحلام من المنظور الاسلامي
في الدين الاسلامي يعتمد الذين يقومون بتفسير الأحلام على المصادر التالية القران الكريم، السنة النبوية و معانى الأسماء، فمثلا قد يكون تفسير من رأى نفسه يسمع الاذان باقتراب حجه لقوله تعالى ( وأذن في الناس بالحج ) و السفينة تعبر عن النجاة لقوله تعالى ( فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ ) و الحجارة تعبر عن القسوة لقوله تعالى ( ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة) كما يعتمدون أيضا على السنة النبوية فيعبر عن قارورة الزجاج بالمرأة لأن الرسول عليه السلام قال رفقا بالقوارير، و يعبر عن حامل المسك بالرفيق الصالح، و نافح الكير بصديق السوء و النجوم بالعلماء.
و يجب على الذي يقوم بتفسير الأحلام أن يكون على دراية كبيرة بعلوم الدين و علوم اللغة، كما يجب أن يتمتع بحدة الذكاء و الفطنة و الفراسة ليتمكن من استنباط المعنى الاقرب للرائي. و على هذا الأساس هناك من لا يعتبر تأويل الاحلام علما بقدر ما هو إلهام.
من المنظور الاسلامي ليس كل الاحلام تتضمن معاني لقد قسم الرسول صلى الله عليه و سلم الأحلام لثلاث أقسام، حيث قال عليه السلام [الرؤيا ثلاثة منها أهاويل الشيطان ليحزن به ابن ادم و منها ما يهتم به في يقظته فيراه في منامه و منها جزءا من ستة و أربعين جزءا من النبوة]
فأما القسم الأول، أهاويل الشيطان فهي تلك الأحلام المزعجة المفزعة ،هذا النوع من الأحلام لا ينبغي تعبيره و لا حتى ذكره و كل ما ينبغي فعله هو الاستعاذة بالله من الشيطان فلا تضره مهما كانت.
القسم الثاني لا يعبر كذلك، فقد يكون الإنسان منشغلا باله بشيء معين فيفكر فيه طوال يقظته و يبقى راسخا في ذاكرته فيراه و هو نائم.
أما القسم الثالث الذي هو جزء من ستة و أربعين جزءا من النبوة فهو الذي ينبغي تعبيره، و الاهتمام به و هي تلك الأحلام التي تقع تماما كما رآها الإنسان في منامه هذا النوع من الرؤيا هي رؤية صالحة و صادقة لأنها من الله تعالى قد تتضمن بشارة معينة أو تحذيرا من شر أو توبيخا أو غير ذلك من المعاني و قد يراها المؤمن و غيره.
مازال عالم الأحلام يجذب فضول الناس على مر العصور و هو لم يبح بكل اسراره بعد.إنه أكبر دليل على جهل الانسان بالكثير من خبايا النفس التي بين اضلعه.