إن المرء لا يكاد يصدق أن حضارة الإنكا التي سيطرت على أراضي شاسعة، و أخضعت شعوبا كثيرة و خلفت إرثا غنيا في العمارة و الزراعة و الإدارة أن تنهار على يد بضع مئات من المغامرين الإسبان، فهذا و مما لاشك فيه إنجاز عسكري تاريخي قل نظيره، فكيف حصل ذلك؟ كيف استطاع الإسبان القضاء على إمبراطورية الإنكا ؟
اللقاء الأول
سنة 1532 وصل المغامر الاسباني فرانسيسكو بيزارو رفقة بضع مئات من رجاله إلى البيرو بعدما سمعوا بوجود حضارة غنية هناك، و لم يخب ظنهم، فقد وجدوا أمامهم حضارة الإنكا التي كانت فيها المعادن الثمينة كالذهب و الفضة متوفرتان و ليس لهما القيمة التي كانت لهما في العالم القديم، دخل بيزارو مدينة كاخاماركا في البيرو حيث كان يوجد ملك الانكا أن ذاك اتاهوالبا و تقدم للقائه، رحب السكان بالقادمين الإسبان و أكرموا وفادتهم، ثم قدم راهب من رجال بيزارو الإنجيل إلى اتاهوالبا ملك الإنكا يدعوه للدخول في دين المسيحية لكن اتاهوالبا رفض و رمى بالكتاب أرضا، فهاجم بيزارو و رجاله الملك و جنوده و الحقوا بهم هزيمة نكراء، و رغم أن جنود الإنكا كانوا يعدون بالآلاف إلا أنهم لم يستطيعوا قتل و لو اسباني واحد، و الإصابة الوحيدة التي سجلت في صفوف الإسبان كان جرحا طفيفا تلقاه القائد بيزارو عن طريق الخطأ من أحد رجاله.
أكثر من ذلك استطاع الإسبان أسر الملك اتاهوالبا و عاهدوه أنه إذا كشف لهم عن مكان كنوز الإنكا فسيطلقون صراحه، فدلهم اتاهوالبا على مخازن الكنوز لكن الإسبان اخلفوا عهدهم فقتلوه، احتل الإسبان بعد ذلك عاصمة الإنكا كوسكو، ثم أخذت باقي المدن تسقط في أيدهم الواحدة تلو الأخرى حتى أصبحت كل أراضي إمبراطورية الإنكا ملكا للتاج الاسباني، كيف حدث هذا الانجاز العسكري؟ ما سبب هذا الانهيار الغير متوقع لحضارة تعتبر هي الأكبر و الأرقى في الأمريكيتين؟
سنسرد هنا بعض العوامل التي تفسر ذلك
الفارق العسكري
مما لا شك فيه أن الإنكا كانوا يمتلكون جيشا لا يستهان به، و استطاع التغلب على الكثير من شعوب المنطقة، بل كان مجرد ذكر اسمه كفيل بإثارة الرعب في نفوس أعدائهم، فجيش الإنكا كان أكثر عددا من باقي جيوش مجتمعات الأنديز، و في صراعات كانت غالبا ما تقتصر على الاشتباك بالأيدي فإن الكثرة هي التي تحدد من ينتصر في النهاية، و بالنسبة للعتاد فقد كان في يد جيش الإنكا أسلحة متنوعة مصنوعة من الحجر و الخشب و النحاس و لم تكن لديهم أسلحة من حديد لأنهم لم يكونوا قد توصلوا إلى اكتشاف الحديد بعد، كانت هذه الأسلحة البسيطة تصنع الفارق مع الشعوب الهندية التي كانت تعيش في غرب أمريكا الجنوبية و لكنها بدت عديمة المفعول عندما استخدمت في مواجهة الغزاة الإسبان.
ففي المقابل كان الأسبان متفوقين عسكريا بدرجة كبيرة، فرغم أن الذين اسقطوا الإنكا هم مجرد حفنة من المغامرين و ليسوا جيشا بالمعنى الحقيقي إلا أنهم كانوا يمتلكون في أيديهم أسلحة حديدية قادرة على إلحاق ضرر قاتل بالعدو كالسيوف و الحراب، ثم فوق كل ذلك البندقية ، و هذه الأسلحة لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تقارن بتلك التي كانت في يد الانكا، فاسبانيا بحكم انتمائها للعالم القديم كانت منفتحة على كل مستجدات الأسلحة أن ذاك، و هذا ما لم يكن متوفرا لدى الإنكا الذين عاشوا في عزلة منقطعة عن العالم، لذلك يمكن القول أن الحرب بين الطرفين كانت غير متكافئة من الأساس، حيث بدا المغامرون الإسبان و كأنهم يقاتلون جيشا قادم من العصور القديمة.
البندقية و الحصان أسلحة فتاكة
من بين أكثر الأسلحة فتكا في حوزة الإسبان كانتا البندقية و الحصان، فالبندقية وصلت إلى اسبانيا في القرن 14 قادمة من الصين ثم أدخلت عليها تحسينات كثيرة حتى أصبحت أكثر فعالية، و قد استغرق الإنكا وقتا طويلا لفهم كيف أن طلقة نارية واحدة عن بعد كافية لإرداء المرء قتيلا في بضع ثواني، و لم تكن الأحصنة أقل فتكا من البندقية، فالرجل على ظهر الحصان يبدو و كأنه أكثر من مجرد إنسان، فهو يتحرك بسرعة و قوة، لقد أثارت الأحصنة رعبا و خوفا لدى جيوش الإنكا التي لم يسبق لها رؤية هذا المخلوق من قبل.
أثار الحرب الأهلية
أيضا لكي نفهم كيف استطاع الإسبان القضاء على إمبراطورية الإنكا لا بد أن نطلع على أحوال الإنكا قبل الغزو الاسباني، فلقد خلف ملك الإنكا هواينا كاباك ابنان غير شقيقان هما اتاهوالبا و هواسكار، و بعد وفاته تصارع الأخوان على الحكم، و دارت بينهما حربا طاحنة دامت أربع سنوات فقد فيها جيش الإنكا الكثير من رجاله، و فوق ذلك تماسكه الذي كان سر تفوقه، و انتهى الأمر بتقسيم الإمبراطورية إلى شطرين شطر شمالي يحكمه اتاهوالبا، و شطر جنوبي يحكمه هواسكار،لكن الهدنة بينهما لم تدم طويلا فسرعان ما هاجم جيش اتاهوالبا مملكة هواسكار فقتل هذا الأخير و أصبح اتاهوالبا حاكما للإمبراطورية ككل، و من سوء حظ الإنكا أنه لم تمضي إلا بضع أشهر عن هذا القتال العنيف حتى وجدوا أنفسهم في مواجهة الإسبان، و تلك المدة لا تكفي لإعادة ترميم الجيش، لقد استغل الإسبان حالة الانقسام التي كانت في صفوف الإنكا ليبسطوا نفوذهم على أراضيها.
الأمراض الفتاكة تفسر كيف استطاع الإسبان القضاء على إمبراطورية الإنكا
تفشت في أوروبا أمراض كثيرة فيما مضى و معظمها كان ينتقل للإنسان عن طريق الحيوانات المدجنة كالخنازير و الدجاج و الأغنام، تسببت هذه الأمراض في هلاك الكثير من الناس لكن الذين نجوا استطاعت أجسامهم تكوين مناعة طبيعية ضدها، تسبب احتكاك الإسبان بالهنود الحمر سكان أمريكا الجنوبية الذين لم يكونوا يملكون من الحيوانات المدجنة سوى اللاما في انتشار هذه الأمراض فيما بينهم، دون أن تكون لديهم مناعة ضدها فأهلكت منهم الملايين، لقد انتشرت هذه الأمراض في إمبراطورية الإنكا حتى قبل وصول بيزارو و رجاله إلى كاخاماركا، لأن الإسبان قد دخلوا أمريكا الوسطى في بداية القرن 16 أي قبل 30 سنة تقريبا من انهيار إمبراطورية الإنكا، و بالتالي فسكان تلك المنطقة أصيبوا بتلك الأمراض أولا ثم نقلوها بدورهم إلى شعب الإنكا المجاور لهم، حتى أنه يعتقد أن الملك هواينا كاباك أب كل من اتاهوالبا و هواسكار قد مات بسبب مرض من هذه الأمراض.
سقوط الملك و نهاية الإمبراطورية
أدرك بيزارو و رجاله مدى المنزلة العظيمة التي يحظى بها الملك عند شعب الإنكا، فهو بالنسبة لهم بمثابة الإله، لذلك كانوا يقدسونه تقديسا عظيما لدرجة لا يمكن للمرء أن ينظر إلى وجهه مباشرة، و هو بزعمهم يمتلك قدرات غير محدودة، لذلك فكر الإسبان أنهم لو استطاعوا الإطاحة بهذا الرأس فسيتهاوى جسد الإمبراطورية كاملا، و هذا ما فعلوه فخلال أول مواجهة لهم مع الإنكا انصب تركيزهم على الإيقاع بالملك حتى أسروه ثم قتلوه فيما بعد، و بقطع الرأس المدبر الذي كان شعب الإنكا كله يأتمر بأوامره انهارت الإمبراطورية بسرعة.
هكذا اذن طويت صفحة حضارة الإنكا و اصبحت كل اراضيها تابعة لاسبانيا الى حين استقلالها في القرن التاسع عشر